حجاج أدول يؤاخى بين مارسيليا والإسكندرية

صلاح فضل الخميس 03-12-2015 21:10

حجاج أدول، مبدع إشكالى جميل، نبت فى وعيه شعور مسنون بالاختلاف، وحسٌّ مستوفز للدفاع عن قضية الهوية النوبية المشتتة، فخشى البعض أن يجور بذلك على حقوق مصريته الأصيلة، لكنه كان، ولايزال، يؤمن، مثل كل أصحاب النزعة الإنسانية المتوغلة فى الأعماق، بأن مصريته تثرى بالتنوع الخالق، وتتحمل، بسماحة، تعدد الهويات الخاصة واللغات المختلفة والثقافات المتباينة، وأن عليه أن يشهد العالم فكرياً وإبداعياً على حقه فى الاعتزاز بهذا الاختلاف، وعندما يقف اليوم على هضبة السبعين من عمره ويحصى حصاده يكتشف مع قرائه أنه لم يكن زعيم فئة جانحة، ولا بشير فتنة طائفية كما اتهم ظلماً، بل كان صرحاً مبدعاً شديد المثابرة، عانى سنوات الفقر والحصار المرير على ضفة القنال خلال حرب الاستنزاف، ودفع ضريبة الدم الوطنية بأكرم مما صنع شانئوه، ولم يكتشف وسيلة لتحقيق رؤيته فى العدل الجغرافى والاجتماعى، وهى الكتابة، إلا بعد أن تجاوز الأربعين، فأخذ يحفر بأصابعه الدامية حتى يسجل شهادته على أصله وعصره، فأبدع أعمالاً مسرحية معروضة، ومجموعات قصصية مشهودة، وكتابات مناضلة توجهاً بقرابة عشر روايات ومشروعات تضعه فى الصف الأول من أبناء جيله، غير أنه يبادر اليوم بنشر رواية جديدة مفاجئة، ذات عنوان غريب هو «كريسة»، وهى الكلمة النوبية الوحيدة التى تحمل أثر فأسه وعلامة رسالته، إذ تعنى «قطة» بكل محمولاتها الميثولوجية، ويعجب قارئ هذه الرواية بأنها تبحر عكس التيار، فقد درج الأدباء والمفكرون، منذ مطلع النهضة، على تصوير موسم الهجرة إلى الشمال الأوروبى عبر المتوسط، انطلاقاً من مواطنهم التى يعرفونها خاصة فى مصر كما فعل الطهطاوى وطه حسين وزكى مبارك والحكيم وغيرهم، لكن صاحبنا يؤثر البداية منذ بطن التاريخ ومن الضفة الأخرى، ليتصدى بجرأة ليمخر عباب البحر من الشمال، ليجسد الحياة فى القرن الثالث عشر فى مارسيليا، بأبراجها وقلاعها والتركيبة الطبقية والثقافية لأهلها خلال الإعداد للحملة الصليبية الشهيرة التى قادها لويس التاسع، ليسلط بؤرة الضوء على أحد فرسان هذه الحملة وهو كلود الأول، فيعمد إلى استبطان وعيه وتمثيل معرفته وشعوره، مع أن خبرة الكاتب الجنوبى بهذا العالم محدودة، فهو يتحدى خياله ويجازف بتاريخه، ويجمع فى كفيه فتات حياة لم يجربها وخطرات نفوس لم يعرف عنها شيئاً طيلة عمره، الأمر الذى كان يجعلنى، وقد عشت قرابة عقدين من الزمن فى هذا الشمال، أرقب بإعجاب جهده وهو ينسب العائلات النبيلة فى مارسيليا، ويختار لأبنائها وبناتها أسماء مناسبة تشف عن إحاطة واعية بهم، ويرصد حركة التجارة وضراوة حروب الأديان فى هذه العصور وهى تخفى فى باطنها مصالح وصراعات اقتصادية وإقطاعية، لكن ما افتقدته وغاب عن حجاج فى هذه الرؤية هو أصداء الوجود العربى فى الأندلس الذى امتد للسهول القريبة من مارسيليا، واستمر بعد هذه الفترة لثلاثة قرون، ولعب دوراً خطيراً فى تنشيط وتحريك هذه الموجات العابرة للمتوسط ذهاباً وإياباً، وأصداء التهديدات الجزائرية والعثمانية للسيادة على المتوسط، كان كل ذلك خارج منظور حجاج أدول المسلط على مشهد أساسى هو البحر الواصل بين الثغر المصرى الفاتن والقلعة الفرنسية الشامخة.

قصة التحولات:

كيف يتغير الناس وتتحول النفوس؟ هذا هو موضوع الفن الأصيل، ليزيدنا وعياً بالدنيا وعمقاً فى إدراك قوانينها التاريخية والفكرية، وليست الحقائق وحدها هى صانعة هذا التغيير، بل الأوهام أيضاً، وقد أفسح حجاج فى روايته للأساطير مكاناً بارزاً يليق بالعصر الذى تدور فيه، كلود الأول - الفارس النبيل الذى يناصر لويس التاسع فى حملته «كان يعشق البحر ويعشق السباحة كما عشق الفروسية، وخلال سباحته فى البحر أحس كثيراً بأن مخلوقات ما تشعر به ويشعر بها، تحيط به حين يسبح على هيئة دوائر وأمواج ذات أشكال وأحجام غريبة، تلاصقه وتداعبه وتناديه بأسلوبها حباً وأملاً، تعود أن يسميها حوريات البحر، بيد أن هذه الحوريات تنقذه حين أوشك على الغرق هروباً بعد أربع سنوات من الأسر على شاطئ دمياط، أنقذه صياد مصرى بسيط على الرغم من معرفته بأنه من فرسان الحملة الصليبية، سأله كلود عن السبب أجابه (هكذا يجب أن يفعل الإنسان مع أخيه الإنسان) وعندما عاد لقصره فى مارسيليا طلب من رسامه أن يسجل صوره، وصف له الصياد بدقة كى يرسمه ويضع تحت اللوحة اسمه: (إنسان)، هذه اللفتة التى تبدو يسيرة جعلت الفارس يتساءل عن جدوى الحروب الدينية (يراجع حال المسيحيين والمسلمين، حال هذا البحر المتوسط الذى كتب عليه أن تتقاتل ضفتاه ضد بعضهما، فتلوثان هذا البحر الأزرق بلون الدم الأحمر.. على ظهر مركب العودة مازال يحاور نفسه، لماذا الحروب وسفك الدماء.. نحن نقول عن المحمديين إنهم كفرة، وهم يقولون عنا كفرة، فمن المؤمن ومن الكافر، من منا على حق؟) وهل هى حرب تتمسح فى الدين لجيوش إفرنجية غازية معتدية، يعود كلود لعائلته وهو غارق فى حالة حالمة مريبة، يقول لهم بصراحة إن حملة مليكهم لويس التاسع لم تكن خالصة للمسيح وإعلاء قيمه الرحيمة، وأن أهم أهداف الحملة والسيطرة على طرق التجارة ومضاعفة المكاسب لكبار العائلات، حكى عن حوريات البحر اللائى رافقنه وطالبنه بالتشبث بالحياة حين كاد يغرق فى مياه المسلمين ليؤدى رسالته، لم يفهم وقتها ما رسالته، لكنه خلال تأمله عن كثبت عرف الرسالة المنوطة به، وهى بث المحبة والسلام بين شاطئى البحر المتوسط، بين المسلمين والمسيحيين واليهود، هكذا تنبثق الرسالة كبؤرة للرواية منذ صفحاتها الأولى، لكنها لا تصبح مجرد مبادئ يفرضها الكاتب على رواته ابتداءً بجدهم الأكبر، بل تنبع من صلب التاريخ وعمق التجربة الفردية لبطل ومواقف وحقائق وأوهام تصنع عالمه وتشكل رؤيته، ومع أن الأعمال الأدبية التى تحمل رسائل مباشرة تضمر فى منظور القراء وتفقد سحرها ووهجها الجمالى غير أن الكاتب ينجح فى توليد الدلالة وبلورة الرؤية هنا بقدر ما يبسط الأوضاع والصراعات ويجسد المواقف والعواطف والأهواء، فيجذبنا إلى رسالته حتى لنبحث عنها فى الأحداث إذا غابت عن السطح أو ضاعت من ذاكرة الأجيال المتباعدة، ثم نراه يعزز الفكرة بالسلوك العملى فكلود أخذ يختلط فى مدينته مع العائلات المغربية المسلمة، تعلم منهم العربية الدارجة والفصحى ليستطيع قراءة القرآن، صرح كلود بأن محمد لو لم يكن نبياً فهو مصلح اجتماعى على قدر كبير من السمو والعبقرية، ولو كان حجاج على علم بانتشار الثقافة العربية والإسلامية فى الأوساط الكنسية والتعليمية فى فرنسا فى تلك الآونة لوجد مئات السبل لتعميق معرفة كلود بها وتعزيز تباعده عن تعصب الكنيسة وانبهاره بأضواء الثقافة النهضوية، ويأتى كلود الثانى - السمين - بعد أجيال ليمضى على درب الأول، ويكسبه أبعاداً جديدة فهو يدعو لأن يعرف الإنسان لغات أخرى وأدياناً أخرى ليزداد معرفة بلغته ودينه، ويرحل إلى الإسكندرية ليحقق مذكرات جده ويشرع فى تنفيذ وصيته، هنا يتألق حجاج فى وصف الإسكندرية فى العصر الوسيط، يلتقط المفارقة الواضحة بين قصور البطالمة المهدمة ورسومهم الدارسة وحى العوالم الذى يتوسطه ميدان «الوسعاية» بتمثاله الرخامى القديم وناسه الذين لا يكفون عن المرح والضحك والعزف والغناء والرقص، يدعى كلود لبيت الحاكم وهناك يشاهد المعجزة التى تأسره (الراقصة بسبوسة) التى تشد أوتار قلبه بما تجمعه من فتنة نساء الأرض كلهن، يحل العشق محل الفكر والتأمل حيث ينفجر فى صدر كلود حب جارف لهذه الراقصة المتفجرة، تنسيه شقراوات مارسيليا ويصبح الجمال رسول المحبة بين الفارس والمرأة المصرية، تتطور فكرة الوئام بين ضفتى المتوسط لتودع بذرتها فى رحم الفاتنة السكندرية بعد زواج الفارس المرح السمين بها، وتصبح الذرية الناجمة عن هذا الزواج فى غيبة كلود الذى يعجل بالعودة لوطنه هى الشاهد على تجسير الهوة بين الشاطئين، يدعو كلود السمين إلى تأسيس جماعة المعرفة والسلام، يحث الأوروبيين على الفخر بالإسكندرية فى عصرها الذهبى التنويرى (لأن وجودها كان خيراً لكل بلدان البحر الوسيط مثل أثينا اليونانية) وأن عليهم تشجيع قيام مدن مثلها وأن يستعينوا بأسماء ثلاثة فلاسفة كمرشدين لجماعتهم، ابن رشد نصير العقل، والراهب الكاتب رابليه الذى قال إن الإنسان فُطر على الإيمان بالمحبة والحرية والتسامح وأن ملكوت الله ليس فى السماء فقط، بل وفى صميم تكوين الإنسان المحب، والفيلسوف الطبيب الأندلسى اليهودى موسى بن ميمون الذى تربى فى حضن الثقافة العربية الإسلامية. الفلاسفة الثلاثة نماذج لعصر الرشد الذى يعتمد على العقل وينشر المحبة والرحمة بين بنى البشر جميعاً.

مشاهد سكندرية:

تلمع المشاهد السكندرية الطريفة فى النصف الثانى من الرواية، منذ يحل كلود الثالث بها، حيث تبرز نماذجها الإنسانية المحفورة فى الضمير والذاكرة، وفى مقدمتها «كديسة» الصبية القطة المتمردة التى تنقم على أمها وخالاتها والقابلة المتمرسة التى تأتى لإجراء عملية الختان لها، تفلت من أيديهن بالرفس والضرب والعض فى مشهد مصرى صميم لا يستطيع تصويره بهذه الحيوية سوى كاتب متمرس بشوارع الثغر ومولع بنسائه ورجاله. وكذلك «حميدو» الذى جسدته السينما المصرية حديثاً، «بطوله البائن وأكتافه العريضة، وأطرافه القوية، وصوته الخشن وسرعة حركته وسيطرته وقت الشجار السكندرى الذى يستخدم فيه دائماً الضرب بالرأس والضربة بالركبة فى الخصيتين، ويقال عنها نصف ركبة وعرقلة الغريم بوضع ساق خلف ساقه فجأة ليقع، وما يعجب النساء فيه من عينين واسعتين ومهارة فى الرقص لأن من لا يجيدها لا يستطيع المبارزة»، وعلى ذكر الرقص يبرع الكاتب فى وصف مشهد التحطيب ويبوح بأحد أسراره، فأحد المشاركين يقول للآخر عند البداية أبيض فإذا رد بمثلها كان مسالماً وإن كانت نيته الأذى رد بكلمة أخرى هى أزرق، ولعل من أهم مشاهد الإسكندرية التى يرصدها الكاتب فى العصر الوسيط أنها عرفت جدود السلفيين المعاصرين فى حركات دينية متطرفة هددت طابعها العالمى السمح، فعندما أقام فيها كلود الثالث وأشهر إسلامه حتى يستطيع الزواج من بائعة السمك الفاتنة كديسة التى وقعت بدورها فى هواه وتحدت أسرتها برزت فيها جماعات الرايات السوداء الملتحية وتجمعوا فى أحد المساجد على بحيرة مريوط لكى يتآمروا ضد كلود الفرنسيس بقيادة زعيمهم الشيخ الذئبى الذى يبغى السيطرة على التجارة والمال فى الثغر حتى «تقع كل بلاد المسلمين تحت سيطرتهم ويحققوا حلمهم فى أسلمة العالم»، وربما أسرف حجاج أدول بعض الشىء فى هذا الإسقاط الحرفى على الإخوان المسلمين وجماعات التطرف فى العصر الوسيط، ففكرة أسلمة العالم لم تكن فى تقديرى قد تبلورت لديهم بعد نتيجة لتفاقم طموحهم السياسى المعاصر، وربما كان التعبير الملائم عنها بمنطق العصر الوسيط هو هزيمة الكفار ونصرة المسلمين.

يثبت حجاج أدول فى هذه الرواية أنه مثل سلالة شخصياته البارعة «الكلاودة - جمع كلود» قد اختمرت فى أعماقه رسالة المحبة النبيلة والسلام الإنسانى، فأحضرهم إلى الإسكندرية وعشقوا نساءها وأنجبوا منهن من يواصل القيام على هذه الشعلة الوضيئة.