كلكم حبيب العادلي؟

أحمد الدريني الثلاثاء 01-12-2015 21:24




«إذا رأيتم شرطيًا نائمًا عن صلاة، فلا توقظوه! فإنه يقوم للصلاة فيؤذي الناس».
ينسب القول السابق للتابعي الجليل سفيان الثوري، وهو بخلاف طرافته، فإنه يرشدنا إلى كراهية الناس للعمل الشرطي منذ بدايات تقنينه وتنظيمه في تجربة الحضارة الإنسانية.
الإشارات التاريخية المتعلقة بالاستجابة النفسية للعمل الشرطي، في نطاق الدول التي خضعت لهيمنة الخلافة الإسلامية في أوج عز الدولتين الأموية والعباسية، تعكس قلقًا واضطرابا وكراهية عميقة للجهاز الشرطي ككل.
إذ إنه كان يضطلع بمهام تدخل في نطاق العمل السياسي المتعلق بكبت ثورات الناس وقمع الحركات المعارضة واغتيال المناهضين لحكم الدولتين الأموية والعباسية، في قطيعة تاريخية مع «شرطة دولة الخلافة الراشدة» التي تركزت مهامها بالأساس في حفظ الأمن وإنارة الطرق ومساعدة الناس.
ومع مضي الوقت، ومع اضطرار البشرية للاستعانة بفكرة «الشرطة» أو ذلك الجهاز الذي نسمح له طواعيةً باحتجاز وسجن، وأحيانًا قتل، الخارجين عن القانون، تبلورت أكثر فأكثر الكراهية بين الطرفين.
الشعوب التي ترى أن الجهاز الشرطي يتحول مع الوقت إلى جهاز قمعي متوحش، لا يمارس مهامه المنصوص عليها دستوريًا، بمقدار ما يتفرغ لممارسة التنكيل والقتل والتعذيب وتلفيق القضايا والجور على الناس بموجب السلطة الممنوحة له.
(2)
في عام 1971 أجرت جامعة ستانفورد بالتعاون مع البحرية الأمريكية تجربة على طلبة الجامعة لقياس سلوك الأفراد حين يتعلق الأمر بالسجان والمسجون.
تبرع 24 طالبا من الجامعة، بعد فرزهم بناء على اختبارات نفسية للتأكد من أنهم لا يعانون مشاكل نفسية أو جسمانية فادحة، ولينقسموا إلى فريقين، أحدهما يقوم بدور السجانين والآخر يقوم بدور المسجونين.
وتم تحديد عدد من الأيام للتجربة، وفقًا لضوابط بعينها، مع تسجيل كل ما يحدث فيها لأجل إفساح المجال أمام علم النفس لتفسير ما يجري بين الطرفين.
والمدهش، أو قل الصادم، أن العلاقة بين طلبة جامعيين، «يمثلون» دور سجانين ومسجونين، تحولت إلى شيء مرعب. فقد استبد السجانون بالمسجونين وتطوعوا لأخذ ساعات عمل إضافية لقهر زملائهم السجناء، وتفننوا في ابتكار صنوف التنكيل بهم!
فيما شن المسجونون ثورات غاضبة ونظموا تمردًا ضد السجانين وخرج الاختبار بالكامل عن السيطرة، بعدما كاد الأمر يتحول لكارثة محققة، خاصة مع علامات الانهيار النفسي التي ظهرت على بعض السجناء.
وهو ما استلهمه فيلم (The experiment) المرعب، حين وثق ظاهرة تقسيم الناس لسجناء وسجانين، وكيف يتحول البشر حين يمنحهم نظام ما (قانوني مثلا) سلطة التحكم في الآخرين، إلى كائنات ظلومة تميل للقمع والسحق.
(3)
يشير البعض إلى أن عددًا من المهن تصيب أصحابها باضطرابات في الشخصية، منها العمل الشرطي والإعلامي للمفارقة!
فحين تتحكم في الآخرين أو تتاح لك فرصة السيطرة عليهم أو توجيههم، تتحول– مالم تكن سويًا منضبطًا مراقبًا لسلوكك جيدا- إلى شخص آخر.
وهو ما فطنت له المؤسسات الشرطية الأكثر احترافية وتقدمًا، وسعت من خلال اجراءات متعددة واختبارات نفسية متتالية لامتحان أهلية أفراد الجهاز الشرطي فيها أولا بأول، لتمييز ما إذا كان بمقدورهم البقاء في وظائفهم باتزان نفسي واحتراف مهني أم لا.
كوارث الشرطة متكررة حتى في البلدان الأكثر تطورًا، غير أن ذلك لا ينفي الدور المحوري الذي يقوم به أصحاب هذه المهنة في حياتنا، من حماية الأفراد والأرواح والممتلكات.
لدي أصدقاء ضباط، لو تكلمت عن جمال أرواح وتهذيب أخلاقهم، لا تكفيني المساحة المتاحة للنشر. بعضهم يكتب الشعر ويتذوقه، وبعضهم نشط في الأعمال الخيرية، وآخرون متصوفون رقيقو الحاشية.
لكن الأزمة ليست في هؤلاء، إذ إن وزارة الداخلية المصرية في نهاية المطاف، ليست عينة أصدقائي، بل هي خليط ضخم من شرفاء أمناء ليس عليهم شائبة، ومن ضباط لا يمكن إلا أن يكونوا وحوشًا أطلقتها الأنظمة التعيسة المستبدة لتنهشنا، ولا يجوز إلا أن يكونوا إفرازًا بشعًا لمجتمع متخبط، يقدر قيمة «المسيطر» ويعلي من قيمة «المتجبر».
وزارة الداخلية المصرية لا يمكن أن تخضع لتعميم مخل، نقول بموجبه إن الوزارة خربة وتضم حفنة من القتلة العدوانيين ومنتهكي حقوق الناس ومدمني امتهان الآخرين فحسب، لكنها لم تقدم لنا ما يشفع لها في السنوات الأخيرة.
فالذاكرة القريبة لم تنس بعد معتقلات العادلي وسجونه وكرابيجه وسلخاناته وقتلى معتقلاته وتجبر ضباطه. ولم تنس بعد حوادث الاعتداء الخارج عن المألوف من أفراد الداخلية على المواطنين الذي بات يتكرر يوميا، ولم تنس مئات التجارب التعيسة مع الأمناء والضباط المرتشين في لجان المرور وكمائنه.
يحاجج ضباط الداخلية: لماذا تتذكرون عشر إساءات وتعمموها علينا ولا تتذكرون مئات الشهداء الذين قدمناهم؟
والرد البسيط هو أن دور الداخلية هو حفظ الأمن، بما قد يتضمنه من أن يفقد الضباط أرواحهم في المواجهات المفتوحة، هذا مفهوم منذ البداية، ومتعارف عليه منذ يقرر طالب الثانوية العامة تقديم أوراقه في كلية الشرطة.
لكن غير المألوف وغير المتوقع وغير المتفق عليه أن يستبد ضابط الشرطة بالناس، أن يمتهن كرامتهم وأجسادهم ويسرق سني أعمارهم ظلما وزورا وتلفيقا في سجونه.
الأرواح التي قضت نحبها، ليست رخيصة. هم ضباط نبلاء، قدر الله لهم أن يلتقوه شهداءً طيبين وطاهرين، وأن تبقى ذكراهم عطرة بيننا. وهم ليسوا رخاصًا علينا، فالفجيعة فيهم تملأ قلوب الأسوياء.
لكن المواطنين الذين قتلتهم الشرطة أو سجنتهم ظلمًا أو امتهنت أجسادهم (التي خلقها الله بالمناسبة أيضًا) شهداء أيضًا. شهداء الظلم والقهر. ولا أظن أنه بمقدورنا أن نفاضل شهيدًا على شهيد، ولو من الناحية الفلسفية على الأقل.
المؤسسة التي لا تبحث بصورة علمية أسباب تردي صورتها، ولا تهتم بإصلاح الجهاز الشرطي إصلاحًا حقيقيا، هي التي تستحق كل هذه الكراهية المبثوثة في صدور المصريين.
لا تعايرونا بمئات الضباط الشرفاء، ولا بمئات الشهداء في مقابل عشرات الفاسدين المفسدين. فكوب اللبن والماء، تلوثه ذرة تراب واحدة فحسب.
وقبل أن تشتموا المجتمع، بدعوى أنه فاسد هو أيضا، انزعوا الخشبة من أعينكم قبل أن تنظروا القشة في عين الشعب.
وتعقلوا قبل أن يأكلنا– جميعًا- غضب لا يبقي على أخضر ولا يابس!