فى عام ١٩٨٥ اشتركت مع آخرين فى تشكيل مجموعة لحماية حقوق الإنسان فى العالم، وكان قائدنا ساعتها أ. د. على الدين هلال، ومن بعده أ. د. أمانى قنديل. كانت هذه المجموعة تدافع عمن يتعرضون لانتهاكات بالغة فى دول أخرى غير مصر، ولكنها من ناحية أخرى كانت النافذة التى منها تعرفت بصورة لصيقة على كيفية عمل «منظمة العفو الدولية»، وغيرها من المنظمات العالمية اللصيقة بالموضوع.
كان العالم قد بدأ سبيله إلى التغيير، وكان الرئيس الأمريكى جيمى كارتر قد رفع من جديد، فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى- راية الحقوق الإنسانية ضمن الرايات الكثيرة التى ترفعها أمريكا. وسرعان ما سقط سور برلين، وانتهت الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفيتى، ودخلت بلدان أوروبا الشرقية، وأخرى فى أمريكا الجنوبية، وثالثة فى آسيا، إلى ساحات «الديمقراطية» والليبرالية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وفى داخلها، بل فى قلبها كانت قضية حق الإنسان فى الحرية والعدالة وغيرها من القيم النبيلة.
فى مصر ذاتها، تنامت حركة حقوق الإنسان، فقد كانت هناك بالفعل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، كما كانت هناك أيضا المنظمة العربية لحقوق الإنسان. ومع هذا التنامى ظهرت إشكاليات كثيرة لها علاقة بالثقافة والتنمية والكيفية التى تقام فيها الديمقراطية مع وجود جماعات من غير الديمقراطيين. وكما هى العادة بين من كانت أصولهم أكاديمية تحولت القضية إلى عمليات لطرح الأسئلة ومحاولة طرح إجابات عنها. النتيجة كانت إنشاء مركز القاهرة لحقوق الإنسان والذين وضعوا بذرته فيما أذكر د. محمد السيد سعيد، رحمه الله، والأستاذ السيد ياسين، والأستاذ بهى الدين حسن، وكاتب السطور، وآخرون.
كانت الفكرة بسيطة وصعبة فى آن واحد؛ بسيطة لأن هناك عقدا ومعضلات كبرى فى الموضوع، وصعبة لأن حل هذه العقد سوف يحتاج لكثير من البحث والتنقيب. كان الغرض هو الدراسة والتمحيص والبحث فى أصول المسائل الكبرى، وليس الحركة السياسية، ولذا كان لا بد من إصدار دورية كان لى شرف تسميتها «سواسية».
ولم يمض وقت طويل حتى جرى لمركز القاهرة ما جرى لغيره من مؤسسات، فقد جرى انشغال آخر بقضايا أخرى، وبقى فى المركز كل من د. محمد السيد سعيد، والأستاذ بهى الدين حسن اللذان أخذا ما كان مركزا أكاديميا إلى اتجاه الحركة السياسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ومع الألفية الثالثة بعد الميلاد أصبح الموضوع رئيسيا فى الساحة المصرية خاصة بعد الثورة الأولى فى يناير ٢٠١١، والثورة الثانية فى يونيو ٢٠١٣. وفى كلاهما ظهرت جماعات ومنظمات وهيئات أخذت بناصية الموضوع، وباتت معروفة «بالمنظمات الحقوقية»، ومن يعملون فيها بالناشطين الحقوقيين. ببساطة صار الموضوع مؤسسيا من ناحية، ومع المؤسسة صار «مهنة» من ناحية أخرى، بات استمرارها مرتبطا بالمدى الذى تتدهور فيه حقوق الإنسان فى مصر، أو يبدو الأمر كذلك فى أعين الناظرين.
الإشكالية التى تبلورت فورا نبتت من مصدرين: الأول المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان وفى المقدمة منها منظمة العفو الدولية ومقرها لندن، و«هيومان رايتس ووتش» ومقرها واشنطن، أخذتا فى الاهتمام المبالغ فيه بمصر وما يجرى فيها. والثانية أن التطورات الجارية على الأرض أدت إلى صدام لم يكن هناك مفر من الدخول فيه بين غالبية الشعب المصرى وقواته المسلحة من ناحية، وجماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفها من تنظيمات أصولية وعنيفة وإرهابية من ناحية أخرى. وعلى عكس ما هو شائع فقد بدأ الصدام اعتبارا من يوم ٢١ يونيو ٢٠١٣ عندما بدأت جماهير الإخوان المنظمة فى الاعتصام فى الميادين مهددين بالويل والثبور وعظائم الأمور كل من ينوى الاحتشاد فى ٣٠ يونيو. كان الإخوان يقومون بما قاموا به منذ ثورة يناير، وهو التهديد بحمامات الدم إذا لم تسر الأمور وفقا للطريقة التى يرغبون فيها. كان الظن ساعتها أن الشعب المصرى ينتظر منهم الإشارة لكى يقوموا بالاستيلاء على الدولة، ولكن الشعب كانت له وجهة نظر أخرى.
سارت الأمور وفق ما هو معروف، ولكن بالتوازى معها بدأ قطاع من جماعة حقوق الإنسان يأخذون طريقا آخر غير ذلك الذى أخذته الغالبية من الشعب المصرى خاصة فى وقائع ما جرى. كان الخلاف دائرا حول من بدأ الصدام وهل كان فى ٣ يوليو أم قبل ذلك فى ٢١ يونيو كما ذكرنا، وما هى شرعية التفويض الذى تم فى ٢٦ يوليو حتى ولو كان عدد المشاركين فيه أكثر بمراحل ممن شاركوا فى ٢٥ يناير، و٣٠ يونيو؟ وأكثر من ذلك ما الذى حدث فى ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة فى ١٤ أغسطس وما جرى بعدها وعما إذا كان ذلك «حكما للعسكر» أو أنه كان تطبيقا لخريطة طريق أقرها الشعب المصرى وكان آخر خطواتها الانتخابات النيابية التى جرت مؤخرا. ولم تكن هناك مشكلة فى أن يكون لجماعة من المصريين رأى مختلف، فعلى مثل ذلك تجرى التعددية السياسية، ولكن المعضلة باتت عندما أصبح الاعتماد على المصادر الأجنبية «الحقوقية» هو الأصل.
فالرواية الخاصة بما جرى فى رابعة صارت تلك التى روتها «هيومان رايتس» واتش، وكذلك أعداد الضحايا، وبالمثل جرت رواية كل الروايات، وليس رواية المصادر المصرية المستندة إلى تحقيقات الإصابة، وشهادات الموت، وتصريحات الدفن، ولا تلك التى أتت مع لجنة التحقيق المصرية التى لا يشك فى نزاهتها للقاضى الجليل فؤاد عبد المنعم رياض، ولا للتقارير الخاصة بالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان. المدهش أحيانا أن المصادر الأجنبية باتت تتدعى أنها تستند إلى مصادر مصرية «حقوقية»، بينما المصادر المصرية «الحقوقية» استندت هى الأخرى إلى ذات المصادر الأجنبية التى أخذت عنها!. وفى النهاية تقاسم الطرفان الأجنبى والمصرى نظرية «الأسباب الجذرية Root Causes» التى تختصر أسباب الإرهاب فى الاستبداد والسلوكيات الأمنية، وليس الأيديولوجية التى تبيح القتل والذبح والاضطهاد والاستعباد لكل المختلفين معها. المثال الناصع على ذلك مجموعة المقالات الأخيرة التى نشرها فى «المصرى اليوم» الأستاذ بهى الدين حسن والتى أنكر فيها أولا أن الربيع العربى كان له أى دور فيما يجرى الآن فى المنطقة من أحداث جسام وهى وجهة نظر مخالفة لوقائع الحال؛ ووضع ثانيا تبعة ظهور الفاشية الدينية وإرهاب «داعش» وأخواتها على أكتاف غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان وعنف الشرطة، وهو نوع آخر من الهروب بعيدا عن الحقيقة التى يشاهدها كل المصريين.
وللحق، فإن المصادر المصرية «الموثقة» فعلا كانت صادقة فى لومها للأجهزة الأمنية على ممارساتها، بل اتهمتها أحيانا بالاستخدام المفرط للقوة، ولكنها عندما فعلت ذلك فعلته من منطلق «الإصلاح الصديق» للقطاع الأمنى الذى يدرك ما تعرض له من مصاعب ليس أقلها حرق مراكز الشرطة، ونقص الإمكانيات، واقتحام وتدمير وثائق أمن الدولة.
والأخطر من ذلك أنه يواجه خصما عنيدا لا يوجد له رادع؛ بل إن غياب الردع هذا جعل الإرهاب يوجه سهامه وعملياته الإرهابية إلى عدد كبير من دول العالم، الديمقراطى منها والمستبد، والغنى منها والفقير (راجع ما جرى فى الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا ونيجيريا وتونس ومصر وسوريا والعراق والهند وباكستان وأفغانستان وغيرهم).
غياب الردع هذا خلق إشكالية كبيرة للحرب ضد الإرهاب، جعلتها مختلفة عن كل الحروب التى عرفتها البشرية من قبل، والتى كان «الردع»، وأحيانا المتبادل، هو جوهر العلاقات الدولية. هذا الغياب ارتبط دوما بالفاشية التى لا تعطى وزنا لا لوطن، ولا لبشر، ولا للإنسانية، ومن ثم فإن التعامل معها ليس تقليديا، ليس فقط فى الحرب، وإنما فى دقة التوازن بين الأمن وحقوق الإنسان، والتى فى المقدمة منها، بالمناسبة، الحفاظ على أمن المواطن، وأمن الوطن. إن هذا الملف يحتاج إلى الكثير من المراجعة من قبل الجماعات والمؤسسات الحقوقية، للأصول والتفاصيل، والوقائع والحقائق حتى نصل إلى كلمة سواء.