روسيا دولة عظمى..
ويمتد الأمن القومي للدول العظمى ليس فقط إلى كل شبر في كوكب الأرض، وإنما إلى حافة المجموعة الشمسية التي يعيش فيها هذا الكوكب، وربما أبعد.
ليست هذه الدول الكبرى كدولنا الصغيرة التي لا تعرف عن الأمن القومي إلا أنه سور للقصر، وحرس للرجل الساكن فيه، وشرطة تؤمن له مداخل ومخارج العاصمة التي ينتهي عند مداخلها ومخارجها حد الأمن القومي لدويلته البائسة.
هكذا ظننا أن ذكورة بوتين الطاغية هي التي تملك حق الرد على ذكورة إردوغان الناشئة، بينما هذه الدول الكبيرة لا تحكمها هورمونات من يقودها كما هو الحال في بلادنا التي تغضب بغضب ساكن القصر وتهدأ بهدأته.. وتتحرك جيوشه بناء على رؤيته الثاقبة، وتضرب بناء على مقدار فهمه للكرامة الوطنية، وتقعد بناء على درجة رضاه عن مستوى الانتقام.
الدول العظمى مؤسسات عملاقة مركبة من مؤسسات كبيرة، معقدة بعضها كظلمات بطن الحوت فوق بعض، وتدير كل مؤسسة من تلك المؤسسات شأنا جليلا في جسد هذا الحوت الضخم دون أن تكون لها القدرة على تحريكه كاملا، لا بإرادة رجل واحد، ولا بإرادة مؤسسة واحدة.
ومن غير الجائز علميا أن يطبق محلل يجمع أطراف تحليله من فائض الأخبار المنشورة، أو من فضلة المقالات المترجمة، ما وقر في نفسه طوال حياته من معرفة فطرية بأخلاق البساريا على أخلاق الحيتان التي تحكم بحار كل ما فيها من أسماك إما تابع مطيع أو مأكول سائغ.
لا تنتهك الطائرات الحربية للدول الكبرى المجالات الجوية للدول عرضا أو خطأ أو اعتباطا، ولا تضربها الدول الأخرى حفاظا على كرامتها الوطنية أو سيادتها على أجوائها، ببساطة لأن كرامة الضواري تقاس بطول أنيابها وقوة أفكاكها وسرعة انقضاضها لا بظنها الخائب في قدراتها.
فلا الطائرة دخلت مجال تركيا الجوي لهوا ولعبا، ولا تركيا أسقطتها بهوى مفرد أو بحماية جوية روتينية أو بجهل بهويتها كما ادعت لاحقا.
ومن يتصور أن دولة من العيار تحت المتوسط كتركيا، يمكن أن تعقر حوتا بحجم روسيا دون أمر أو مشورة من عشيرة الناتو، جاهل بطبيعة التنسيق العسكري بين دول هذا الحلف الذي يدير قاعدة أنجرليك الجوية في تركيا بأكثر من خمسة آلاف رجل جو أمريكي، وبطائرات أمريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية، وأنظمة استطلاع وتعقب لا بد أن أحدها رصد المقاتلة التركية – أمريكية الصنع – التي خرجت لإسقاط الطائرة الروسية، من حيث أنها مؤهلة بما يكفي من التكنولوجيا العسكرية لرصد أي مغامرة تقوم بها بعوضة في أجواء هذه المنطقة من العالم.
وحتى لو سحبت أمريكا وألمانيا منظومات باتريوت الخاصة بها من تركيا مثلما أعلن قبل عام أو عامين، فما زالت للناتو منظومات من نفس النوع على الأراضي التركية – كبطاريات باتريوت الإسبانية مثلا – وأبسط مستويات المعرفة العسكرية تقول إن تركيا يجب أن تبلغ هذه الدفاعات الأرضية بتحركات قواتها الجوية في أجوائها قبل تحركها وإلا أصبحت هدفا للصواريخ فورا.
كما أن سوابق الانتهاك العمدي للطائرات الحربية الروسية للأجواء التركية لا تجعل روسيا ضحية «لطعنة في الظهر» كما قال بوتين، وإنما تقاس هذه الانتهاكات على سلوك الضواري التي عهد فيها أن تبول بشكل دوري على أطراف مناطق نفوذها.
ما جرى في أجواء سوريا مظهر من مظاهر صراعات الدول الكبرى، ومن بينها أمريكا التي تتربص بالوجود الروسي في سوريا وتتوجس منه شرا، ومن بينها روسيا التي ما جاءت بطائراتها وبوارجها وجنودها إلى هذه الأرض لتزرع الزهور.
كما أن هذه القوى العظمى ليس من بينها تركيا التي لا تمثل في المواجهة أكثر من مخلب أصم، أو ميدان حرب تصادف وجوده تحت سماء تدور فيها مساجلة غرضها دفع روسيا إلى إبراز نواياها الكامنة وراء وجودها العسكري في المنطقة، وتعجيل تحويلها لعناصر القوة التي تملكها، إلى قوة حقيقية على الأرض لتسهل قراءتها في الخطوات التالية.