أحداث جِسام حدثت وتحدث فى بلدنا وفى المحيط الإقليمى والعالمى حولنا، زادت وتيرتها فى الأسابيع الأخيرة وأحدثت آثاراً سلبية على الأحوال الاقتصادية والأمنية والنفسية لجموع المواطنين..
حوادث إرهابية عنيفة هزت العالم والمنطقة المحيطة بنا، اكتوينا ببعض من نارها هنا فى بلادنا، وتحركات عسكرية خطيرة للدول الكبرى تموج بها المنطقة، فى نفس الوقت الذى نسمع فيه عن لقاءات على أعلى المستويات بين الرئيس ومسؤولين كبار من جميع أنحاء العالم لا نعرف ما يدور فيها سوى بضع كلمات يجود بها المتحدث الرسمى لا تقول شيئاً مهماً وأحاديث متناقضة عن علاقات استراتيجية أبدية مع الحليف الأمريكى، فى الوقت الذى يتنامى فيه التعاون العسكرى والاقتصادى وتُعقد اتفاقيات هامة طويلة المدى مع الصديق والحليف الروسى..
ونسمع أيضاً عن اتفاقيات متنوعة مع دول عربية وزيارات متعددة لدول عربية وأجنبية، فى نفس الوقت الذى تدور فيه أحاديث خطيرة عن فشل فى التعامل مع ملف مياه النيل والتهديد الذى يمثله سد إثيوبيا لشريان الحياة فى مصر. كل ذلك يحدث ولم يفكر الرئيس فى أن يخرج إلى شعبه بحديث مصارحة ومكاشفة يخبرهم فيه بحقيقة الأوضاع وما تجابهه مصر من مصاعب وتحديات، ويشرح مفهومه فى تحديد من هو العدو ومن الصديق، وأين مصالحنا وسط كل هذا الذى يجرى حولنا بعيداً عن الكلمات العاطفية والشعارات التى لا يختلف عليها أحد..
أعرف أننا بعيدون عن تلك المبادئ المُستقره فى الدول الديمقراطية المحترمة مثل ضرورة مشاركة النخب السياسية المستقلة والمعارضة والأحزاب والمنظمات المدنية المختلفة فى إبداء الرأى والمشورة فى القضايا المصيرية والهامة، فالبلد يدار منذ ما يقرب من ثلاث سنوات بدون رقابة (برلمان) وبدون مشاركة (إهمال مقصود وإضعاف وتشويه للأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى)، ولكن أن تصل الأمور بحيث يبدو أن قيادات الدولة تتعامل مع التعددية السياسية على أنها عائق أمامها، وتعتبر البرلمان شر لابد منه لتحسين صورتها أمام العالم لا أكثر (تأجيل الانتخابات أكثر من مرة واعتماد نظام انتخابى ردىء وقيام الأجهزة الأمنية باصطناع تجمعات لا وزن لها من المصفقين والمنافقين والطامعين مثل قائمة فى حب مصر وحزب مستقبل وطن)، وتتعامل مع الشعب كقطيع لا يهمه فى الحياة غير أن يجد ما يملأ بطون أفراده (الإعلان عن وجبات غذائية رخيصة هذه الأيام)، فهذا هو طريق الندامة والسقوط لا ريب.
ليس غريباً فى ظل ذلك كله حالة الضبابية والتناقض التى تظهر بوضوح فى كتابات المحللين السياسيين والكتاب المتخصصين هذه الأيام لغياب الرؤية والمعلومات (وهو ما جعل المجال مفتوحاً أمام أنصاف المتعلمين وأصحاب العاهات الفكرية والعقلية المرتبطين بالأجهزة الأمنية العاملين ببعض القنوات الفضائية لمخاطبة الملايين من العامة الذين يسهرون كل مساء ليسمعوا هُراء وهرتلة تزيدهم جهلاً وحيرة)، ولكن الغريب حقاً أن تتكرر دعوة الرئيس للمواطنين بالاصطفاف وأن يكونوا على قلب رجل واحد فى ظل هذا التجاهل للشعب وغياب المصارحة والمكاشفة بشأن التوجه العام للدولة والأهداف التى تسعى لتحقيقها والعراقيل التى نواجهها وخططنا فى هذه المواجهة، ليس بمجرد كلمات عامة أقرب للشعارات التى مللنا سماعها ولا خلاف عليها بالتأكيد مثل الحفاظ على الدولة ومؤسساتها ومحاربة الإرهاب وتجديد الخطاب الدينى وأحاديث المؤمرات التى لا تنتهى علينا بدون تفصيلات ولا توضيحات، فالإغراق فى السرية والتعتيم وتجاهل الرأى الآخر أصبح أسلوب حكم هو بالتأكيد غير رشيد، ويضع علامات استفهام عما يعنيه الرئيس بالاصطفاف وأن يكون الشعب على قلب رجل واحد. على الجانب الاقتصادى والاجتماعى فإننى لا أعتقد أن تطوراً حقيقياً وملموساً يمكن أن يتم فى ظل حالة انعدام الشفافية وضعف المتابعة والمراقبة الذى هو عنوان المرحلة، وربما يكون ضلوع القوات المسلحة بطبيعتها وتقاليدها فى المجالات المدنية بصورة غير مسبوقة هو أحد أسباب تلك الحالة. لقد قرأت فى صحيفة «المصرى اليوم» يوم 22/11 تحقيقاً عما يجرى فى ماليزيا منذ عام 2009 وكيف أنهم وضعوا خطة للنهوض بالاقتصاد من بينها 200 مشروع قومى لجذب 440 مليون دولار من الاستثمارات للوصول بماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2020 وكيف أنهم أقاموا جهازاً اسمه «البيمندو» يتبع رئيس الجمهوريه يقوم بمتابعة المائتى مشروع، ويضع هذا الجهاز (الذى يضم 150 فرداً من أحسن الكفاءات الإداريه) لكل مشروع مجموعة من الأهداف ومؤشرات لقياس مدى نجاح التنفيذ، ويتم ذلك أسبوعياً وشهرياً وسنوياً بتقارير مختلفة، وأعطى الجهاز لكل وزير «آى باد» يكتب عليه كل خميس ما تم تنفيذه وما يواجهه من مشاكل ليتم إعلانها لكل الوزراء يوم الجمعة، وهناك خاصية فى التطبيق على الموبايل تتيح للناس التعليق على ما يُكتب والمشاركة فى الرأى لوضع الحلول أمام أى عقبات بدون أوراق المخاطبات العقيمة، ويقدم جهاز «البيمندو» هذا تقريراً سنوياً مكتوباً للشعب فى حوالى 200 صفحة يشرح فيه ما تم إنجازه وما لم يتم بشكل مبسط ولكنه مُفصل.. هكذا تحقق ماليزيا نمواً فاق كل التصورات بسبب الشفافية ومشاركة الناس فى تحمل المسؤولية. بمثل هذا يا سادة يمكن أن تتحقق التنمية الشاملة ويتعمق الانتماء الوطنى الحقيقى، أى عندما يشعر الناس أن الوطن بالفعل وطنهم جميعاً لا لفئة أو جماعة، وأنهم مشاركون لا متفرجون.. تعلموا يرحمكم الله.