أخبرنى صديقى طبيب العيون الشهير عن زيارته الأولى لهارڤارد الأمريكية لاستكمال دراسته بعد تخرجه فى الجامعة المصرية. لاحظ على ناصية أحد الشوارع لافتة تقول: «يوجد طفلٌ أصمّ فى هذا الشارع» Deaf Child on the Street. ولم يفهم صديقنا ما دلالة هذا، وبعدها اعتاد على رؤية لافتات مثل هذه تحذّر المارة وسائقى السيارات من وجود شخص لا يسمع يمر بهذا الطريق، حتى ينتبه مَن يقود السيارة أن آلة التنبيه «الكلاكس» لن تكفى لتنبيهه لخطر ما، أو وجود آخر لا يبصر يقطن فى هذا الحى، لكى نتعامل مع الأمور بالحذر الذى يؤمّن سلامته. لكن الاهتمام بحق الحياة لم يتوقف عند بنى الإنسان، لدى الغرب الذى نلعنه فى سرائرنا بعين، ونرميه بسهم الحسد بالعين الأخرى، بل تجاوز ذلك الاهتمام منطقة الإنسان إلى منطقة الحيوان والطير والنبات، وكذلك الأثر، فمَن سافر إلى بلاد الله الأوروبية والأمريكية والآسيوية، لا شك لاحظ على الطرق السريعة لافتات مرسوما عليها «غزال»، تحته تحذير بوجود غزالات شاردة تعبر نهر الطريق بين الحين والحين، أو صورة بطة يسير خلفها سربٌ من صغار البط، حتى لا تدهس عجلات السيارة هذا الموكب البطىّ الصغير وهو يعبر من ضفة الطريق إلى الضفة الأخرى، بحثًا عن الماء والقوت. إنهم يدركون قداسة الروح ويحترمونها.
مَن عاش فى تلك البلاد فترة من الزمن سوف يعتاد على مشاهدة أمور مثل تلك لم تعد مدهشة إلا لنا نحن الذين مازلنا نتعلم أن للروح قداسة عند خالقها، حتى وإن كانت روح عصفور صغير يفتح منقاره الدقيق لقطرة ندى أو حبّة قمح يحملها منقار أمه العصفورة، أتت بها من سنبلة بعيدة لتُطعم صغارها. سيقول قائل إن بلادنا تدهس عجلاتُ قطاراتها الأطفال دون أن تطرف للمجتمع عينٌ. وسيقولون إن معدلات حوادث الطرق فى بلادنا وصرعى الأسفلت أكثر من صرعى الحروب، لأن بلاد العرب لا تحترم الإنسان، بل تنظر إليه باعتباره زائدًا عن الحاجة. وسأتفق مع الجميع فى هذا الطرح، وأزيد أن تركيبتنا النفسية لم تنشأ منذ الطفولة ليس على عدم احترام الإنسان، وحسب، بل على عدم احترام «الطبيعة» بكاملها من شمس وخضرة وحيوان وطير وغيرها مما خلقه الله فى توازن دقيق، من أجل رفاهية هذا الكوكب، الذى أنهكناه بالحروب والأمراض والأوبئة والتصحّر ومحاربة الجمال فيه وقتل البراءة.
الطفل فى الغرب يتعلّم أن كل كائن حىّ هو صديقٌ للإنسان بشكل أو بآخر. حتى الزواحف التى نطؤها بأحذيتنا فى تقزز، لها احترامها فى بلاد الغرب. شاهدتُ بنفسى إحدى المدارس فى كاليفورنيا موجودة فى منطقة جبلية تكثر بها الثعابين. ويعلّم المعلمون تلاميذهم كيف يتعاملون بتحضر، وأمان، ورحمة مع تلك الزواحف التى تتسلّل إلى فصولهم بين الحين والحين، دون فزع، ولا قسوة، فينشأ الطفل مدركًا أن لتلك الكائنات حقًا فى الحياة مثله تمامًا، وعليه احترام فكرة أن تلك الأم التى زحفت من جحرها لضرورة ما، من حقها العودة إلى صغارها الزواحف آمنةً، مادامت لم تؤذ أحدًا. تمامًا كما يتعلّم الطفلُ أن شعاع الشمس شىء ثمين يجب احترامه والنهل من خيراته، وأن النهر منحة سماوية من الله لا يجوز تلويثها بمخلفاتنا، وأن النبتة الخضراء ثروة قوية على الجميع احترامها، وغيرها من مفردات الطبيعة التى نهينها كل نهار، فتمتلئ أجسادُنا بالأمراض والأوبئة، وتمتلئ أرواحُنا بالغلاظة والفظاظة.
تعامل الإنسان الأول مع الطبيعة باعتبارها عدوًّا شرسًا يجب ترويضه لصالح الإنسان، وحين ارتقى الإنسانُ وتحضّر واستنار عقلُه، أدرك أن الله لم يخلق أعداء لأبناء الأرض، بل أصدقاء لو أنصت إلى إيقاعهم وقرأ كتالوجاتهم، لأحبهم، وعرف أن الكون كله ليس إلا أوركسترا هائلة، مضبوطة النغم مدوزنة الأوتار.
Twitter: @FatimaNaoot