جاءتنى الرسالة التالية:
«أؤمن بوجود الله عز وجل. وأرى قدرته فى أمور كثيرة. يوميا وبعد صلاة الفجر أمكث لأشاهد السماء وأراقب ألوانها وأتعجب من قدرة الخالق. لكنى لا أستطيع أن أمنع التفكير فى بعض ما يجريه على مخلوقاته من أقدار. وأتعجب لما أشاهده من ألم. لماذا يفعل الله ذلك؟ أخشى أن أتجاوز فى كلامى أو تصدر منى عبارات غير لائقة، ولكن: إذا كان الله يحب مخلوقاته فلماذا يعذبهم إذن بالمرض؟ ويعذبنا بمشاهدة أحبابنا وهم يتألمون؟ قد يقول قائل إنه يمتحننا ليدخلنا الجنة، ولكننى حينما أخطط لنزهة قطتى فإننى لا أفكر فى إيلامها مسبقا لكى تستحق بعدها النزهة! فلماذا يسمح الله بعذابنا؟».
■ ■ ■
انتهت الرسالة الحائرة. وقبل أن أبدأ الرد لابد أن أنبّه أنه توجد مبالغة فى الوصف. فالله لا يعذبنا مسبقا لكى يمنحنا نعمه. وإنما الأصل أننا فى نعم. وليس الأصل بالتأكيد أننا فى مرض ونقم. نحن معظم الوقت متمتعون بالعافية، نرى ونسمع ونشم ونأكل ونُرزق ونتنفس، وتسير أمورنا فى سلاسة.
■ ■ ■
أما بالنسبة لعمق الموضوع فإننى أرى أن هذه التساؤلات تدور حول محور واحد، وهو: «لماذا يوجد شر فى الدنيا؟ وكيف يمكن أن نوفق بين وجود الإله الرحيم مع ما نشاهده من شر؟».
أقول للسائلة الكريمة إن هذه هى أقدم الشبهات ضد الأديان عموما. ولذلك يزعم اللادينيون أن الإنسان اخترع الشيطان لكى ينسب إليه الشر، تنزيهاً لصوره الإله الكامل.
العقاد ناقش هذه الشبهة فى مقدمة كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» وكانت وجهة نظره أن الأمور تُعرف بأضدادها. ولذلك اعتبر إبليس فاتحة خير للإنسانية! لأننا بدون الألم لا نعرف السعادة، كما أننا بدون الظلام لا نميز النور.
■ ■ ■
أما الإجابة التى تقنعنى شخصيا، واستراحت إليها نفسى فهى الآية الكريمة «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون». هذه هى خلاصة المسألة لأننا كبشر محدودون بحواسنا فى فهم هذا الكون وما يصيبنا من أقدار الخير والشر. ولو تصوّرنا أننا حُرمنا حاسة البصر أو السمع ألن تكون تصوراتنا عن الكون ناقصة؟ ولأننا لا نستطيع أن نجزم بأن هذه الحواس الخمس هى وحدها الممكنة، فإن معرفتنا بالحقيقة هى بالضرورة قاصرة.
وبالتالى النقطة المهمة فى اعتقادى ليست هى: «لماذا يفعل الله ذلك؟»، لأنه من حقى أصلا أن أحاسب خالقى. السؤال الصحيح فى رأيى هو: «هل الله موجود أم غير موجود؟». فإذا كان موجوداً فلابد أن أثق فى عدله وحكمته.
وأنا بكل كيانى أثق أن الله موجود. أعمى من يطلب الدليل أو يشك فى ذلك. الكون كله يعلن وجود خالقه. وبالتالى فله حكمة لا أدريها. وإذا كان قد ابتلى مرة فقد أنعم آلاف المرات! بل ملايين المرات. بل بلايين المرات. فهو سبحانه المنعم، وهو المستحق للحب والعبادة.
ولعل مشكلتنا الكبرى أننا محصورون فى الزمن، بينما يتساوى عند الخالق الماضى والمستقبل لأنه خالق الزمن، وإذا جمعنا الدنيا والآخرة لوجدنا أن العدل متحقق لا محالة.
■ ■ ■
وفى النهاية أؤكد أن معضلة الشر عسيرة الفهم حقا. والملائكة نفسها احتاروا: «أتجعل فيها من يفسد فيها؟». ثم ألهمهم الله التسليم، فقالوا: «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا». ولذلك علينا أن نضع نصب أعيننا الآية الكريمة «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون». فهى سفينة نوح فى بحر التحير المُهلك.