فى أديرة شمال إيطاليا كان الرهبان يعكفون ساعات طوالا على نسخ الكُتب وقراءتِها. فطِن أحدُهم إلى استخدام أداة مصنوعة من الزُجاج لتسهيل الرؤية. هكذا وُلدت النظارة. أطلقوا عليها العدسة لأنها تُشبه حبة العدس. ولكن لماذا تأخر ظهور النظارة فى التاريخ حتى القرن الثالث عشر؟ الإجابة تكمن فى تكنولوجيا الزجاج. الحضارات القديمة عرفت سر صناعة الزجاج من السيليكون. المشكلة أنه لم يكن نقياً بصورة تسمح بالرؤية. فى البندقية تجمع صناع الزجاج فى جزيرة صغيرة اسمها «مورانو» منذ 1204. طوروا الصناعة بصورة غير مسبوقة لينتجوا الزجاج الشفاف الذى نعرفه. هكذا، انطلقت الثورة التى أوصلتنا إلى الألياف البصرية!
تأمل هذا التتابع: اختراع الطباعة فى منتصف القرن الخامس عشر أفرز حاجة متزايدة للنظارات. ازدهر صناع العدسات. لم يمر وقتٌ طويل قبل أن يُفكر أحدهم- ربما بمحض الصدفة- فى أن يعبث بالعدسات بوضعها فوق بعضها البعض. ظهرت قدرة العدسات العجيبة على تقريب الأشياء. التقط «جاليليو جاليلي» الاختراع وطوره. كان واضحاً أن للتليسكوب فائدة حربية. على أن «جاليليو» فعل شيئاً عجيباً. هو وجه جهازه الجديد إلى السماء. كانت تلك لحظة فارقة. إنها اللحظة التى بدأ الإنسان يُدرك فيها- بالملاحظة المباشرة- أننا لسنا مركز الكون.
الزجاج فى كل شىء حولنا. بدون تكنولوجيا صناعة الزجاج ما كان التليسكوب أو الميكروسكوب. ما رأينا الكون وما رأينا أنفسنا. فى المرة القادمة التى تلتقط فيها صورة «سيلفى» تذكر أن كل العمليات المرتبطة بالصورة، بما فيها الألياف الضوئية التى تنقلها إلى أصدقائها، ترتكز على الزجاج!
كتاب «How we got to now» (كيف وصلنا إلى العصر الحالى)، للمؤلف الأمريكى «ستيفن جونسون»، يروى تجربة سبعة اختراعات صنعت عصرنا الحاضر. هى أشياء عادية، مثل الزجاج. نهمل عبقريتها من فرط ما ألفناها. أغلبها ليس له مخترع وحيد. قصة الوصول إلى كل اختراع منها تحمل فى طياتها أسرار الإبداع البشرى. الكتاب ملىء بقصص النجاح والفشل. كل اختراع يطلق سلسلة من النتائج غير المتوقعة. يخلق مشاكل لم تكن متصورة. يُفرز حاجات لأشياء لم تكن موجودة من قبل (مثل اختراع الطباعة الذى أظهر الحاجة للنظارة). يتحدى العبقرية البشرية فى البحث عن حلول. الحلول تُفرز بدورها مشاكل جديدة.. وهكذا!
فى مطلع القرن التاسع عشر فكر أمريكى مغامر يُدعى «فريدريك تيودور» فى نقل الثلج من الولايات الشمالية الباردة إلى الولايات الجنوبية الحارة. الثلج فى الشمال مجانى. فى الجنوب يُمكن أن يُباع مُقابل ثروة. فكرة عجيبة لا تتطلب سوى خيال جامح. لا عجب أن أحداً لم يفكر فيها قبل هذا الشخص، فقد كان البشرُ مهتمين أكثر بنقل الحرارة، لا البرودة. فى البداية فشل مشروعه لأن الناس لم تُقبل عليه. خسر الرجل أمواله وسُجن للوفاء بالدين. كانت هناك مشكلة فى التخزين. اكتشف بالصدفة أن نشارة الخشب والتخزين فى مبان حجرية بنظام بدائى للتهوية يحافظ على تجمد الثلج. نجحت الفكرة. انتشرت مخازن الثلج فى مدن الجنوب. عندما توفى «تيودور» كانت ثروته 200 مليون دولار! هذه الفكرة- نقل البرودة- هى التى ألهمت اختراع الثلاجة ثم التكييف. يقول الكتاب إن الثلاجة لم يكتشفها شخصٌ واحد، ولكنها لمعت فى ذهن عدد من الأشخاص عندما ظهرت الحاجة إليها. لمعت فى أذهانهم فى وقت واحد تقريباً.
الاكتشافات العلمية تأتى فى شكل موجة. الصورة الشائعة عن المخترع كشخص عبقرى يحلم بشيء ثم ينفذه، هى الاستثناء لا القاعدة. أغلب الاختراعات تُصبح «قابلة للتخيُل» عند لحظة تاريخية بعينها. بعد هذه اللحظة يبدأ الكثير من الاشخاص فى تصورها. البطارية الكهربائية والمحرك البخارى والتلغراف...كلها نماذج لاختراعات توصل إليها مكتشفون مستقلون عن بعضهم البعض فى أماكن مختلفة عبر عدة سنوات. فى 1920 كشفت ورقة بحثية لجامعة كولومبيا عن أن 148 اختراعاً قد حدثت فى نفس الوقت!
فى الكتاب حديثٌ مثير عن تكنولوجيا الصوت والضوء والوقت. أختار أن أقف عند تكنولوجيا النظافة. حتى القرن التاسع عشر لم تكن النظافة الشخصية جزءاً من التقاليد الأوروبية. يُقال إن الملكة إليزابيث كانت تستحم مرة فى الشهر. كان ثمة اعتقادٌ بأن الاستحمام ليس عادة صحية. تغير الأمر مع ظهور «نظرية الجراثيم» فى منتصف القرن التاسع عشر. أصبحت الصحة مرتبطة بالنظافة مباشرة. اشتدت الحاجة إلى منظومات الصرف الصحى فى المدن الكبيرة. لأول مرة يتجاوز سُكان المدن المليونين فى لندن. انتشار الكوليرا والتيفود ارتبط بصورة مباشرة بتكنولوجيا الصرف والمياه. أصبحت المُدن فخاخاً مميتة بسبب انتشار الأوبئة. فى مطلع القرن العشرين فكر مهندس أمريكى من نيوجرسى اسمه «جون لييل» فى إضافة الكلور للمياه. كان اكتشاف هذا الرجل أهم من معظم اختراعات أديسون، على الأقل من زاوية أعداد البشر الذين أنقذهم من الموت بالكوليرا.
اليوم، مازال هناك مليار شخص يقضون حاجتهم فى العراء (منهم 638 ألفا فى الهند). «بيل جيتس»، عبقرى عصر المعلومات، فكر فى تكنولوجيا جديدة للمرحاض. ما يدعو إليه هو مرحاض قليل التكلفة يوفر فى المياه ونظم الصرف، ويستغل الفضلات البشرية فى توفير الهيدروجين والمخصبات. هو يسعى لترويج الفكرة فى الهند. يقول إن كل دولار يُنفَقُ فى تطوير تكنولوجيا المراحيض يوفر تسعة دولارات تُصرف فى العلاج. الكثير من المدن الكبرى فى الدول النامية تُكابد مُشكلات عانت منها المدن الغربية فى القرن التاسع عشر. قد لا يكون علينا أن نسلك نفس المسار فى ابتداع الحلول. التكنولوجيا فائقة التقدم توفر حلولاً بديلة. يتطلب الأمرُ قدراً من الخيال والمغامرة، وقبسا من روح الابتكار التى صنعت عالمنا المعاصر!