في الصف الثاني الابتدائي نصحتنا المعلمة بتغطية أواني الطعام حتى لا يصل إليها الذباب، وعدّدت الأمراض التي يمكن أن ينقلها. سألتها: «طالما أن الذباب مُضرّ أو مُقزز، لماذا خلقه الله؟».
جاء رد المعلمة مقنعًا: «خلقه كي يعلمنا النظافة! الذباب بما يثيره من تقزّز وضيق يدفعنا للالتزام بعادات صحية، مثل تغطية الطعام». الذباب إذًا مفيدٌ للإنسان، وجوده ينذرنا بأن شيئًا ما غير صحي، بشكل ما يحمينا من المرض، وهي حماية مبنية على منفعة متبادلة، دون هذه الحماية لا يجد هو ما يقوته..
اجتمع الذباب يومًا ليبحث كيف يمكن أن يصل إلى قوته دون التعرض للمبيد الحشري أو الضربات العشوائية في الهواء أو السباب. قالت ذبابة: «علينا أولًا أن نعرف لماذا لا يُحبنا البشر؟»، ردت أخرى: «لا نستطيع أن نعرف إجابة هذا السؤال منهم، لأنهم لا يفهمون لغتنا، وأصواتنا ليست جَهُورية مثلهم، فالواحد منهم يتكلم يُسمعنا جميعًا، أما نحن فلا يَسمعنا أحدهم ما لم نقترب من أذنه». ورأت المجموعة تفنيد الأمر من خلال مقارنة سلوك البشر مع بقية الحشرات، «الإنسان أكثر عدوانية مع الناموس، لأنه قادر على إثارة إحساسه بالألم، بسبب قدرته على القرص»، الحل إذًا محاكاة قدرات الناموس.
قضى الذباب عدة أيام يتدرب على أن تحمل كل ذبابة على رأسها سنًّا مدببة بمثابة سلاح رادع لأي محاولة إيذاء. ثم عاد إلى الحي الذي يتردد عليه. مازال السكان يتقزّزون منه ويرشونه بالمبيدات، لعلهم لا يلحظون السلاح الدقيق الذي تحمله الواحدة منه. أما الذبابات، فما إن تحاول إحداها استخدام السن المدببة المربوطة على رأسها إلا وتنقلب على ظهرها.
يجتمع الذباب مجددًا، ليفكر في تعزيز قدراته. تقول واحدة «أرى أن يبقى السلاح فوق رؤوسنا، علينا أن نزيد عليه شيئًا، لا أن نستبدله» توافق الأخريات. تقول غيرها: «الإنسان يخاف النحلة، يخافها قدرتها على لسعه.. يكفي فقط أن تحذره من غضبها بصوت الطنين المخيف». وفي وقت قصير، تم اتخاذ القرار بالإجماع: «يصدر جميع الذباب أزيزًا عاليًا عندما يرى آدميين، وهي محاولة لمحاكاة طنين النحل، والغرض الاستراتيجي من ذلك هو إثارة الرهبة في نفوس البشر».
عاد السرب إلى الحي بعد قراره بالأزيز المرتفع والاحتفاظ بالسن المدببة فوق الرؤوس، لكن الأمر تغير للأسوأ. صوت الذباب العالي جعله أكثر إزعاجًا من ذي قبل، بالتالي صار سكان الحي أكثر سرعة في مقاومته بالطرق المختلفة من هش ومبيد. الأمر الأهم، أنهم صاروا أكثر حرصًا على تغطية الأواني وتنظيف أماكنهم، كما كانت معلمتي في الابتدائي تنصحنا!
مرة أخرى يجتمع الذباب، وفي حنق يناقش المسألة «الوضع الآن أن البشر صاروا أكثر نظافة، وأكثر حسمًا وعدوانية»، ترد أخرى «ربما علينا التصعيد.. لا يكفي أن نحمل سنًّا مدببة نستخدمها وقت الحاجة، لنستخدمها كل وقت، بحيث يخاف البشر التعامل معنا»، يوافقها البعض، وتزيد أخرى «علينا أيضًا تضخيم أصواتنا في الأزيز، بحيث يصبح أكثر ترهيبًا»... لكن ذبابة ثالثة تُبدي رأيًا مخالفًا «أعتقد أنه علينا الغناء!»، تواصل وسط استغراب الحضور «طالما لم نفلح في التعامل مع سكان الحي كأعداء، لنتخذهم أصدقاء، وبدلًا من أن نصبح كائنات مؤذية، نتحول لكائنات لطيفة مؤنسة وجميلة، وقتها لن نجد منهم مقاومة».
ينقسم السرب بين مؤيد للتحول السلمي والاستمرار في الردع والهجوم، بفارق ضئيل يتم التصويت لصالح اقتراح التودد للبشر. وتبدأ المناقشة: «ماذا يحب البشر؟»، ترد إحداها «لا يحبون شيئًا! نجدهم دائمًا مُتأفّفين». بعد صمت تقول واحدة «الإنسان يحب الفراشات ويبتسم لها، تُبهره ألوانها المتعددة»، تناقشها رابعة «تعنين أنه يحب الجمال؟»، ترد: «ليس بالضرورة، الفراشات تطير سريعًا فور أن تحطّ على شيء، وتضرب جناحيها طوال الوقت، فالإنسان عمليًّا لا يتمكن من استيضاه نقوش أجنحتها ولا تأمل جمالها حتى يحبه، إنه يصنع للفراشات جمالًا بخياله قبل أن يتفحصها ويرى كيف تبدو»، وتردف «ليس علينا أن نتحول إلى جميلات، علينا فقط امتلاك مادة جمال».
واتفق الذباب على أن تلون كل واحدة جناحيها الشفافين بألوان زاهية، بحيث يراها الإنسان كائنًا جميلًا جاذبًا، وقضت أيامًا منعزلة عن البشر لطلاء أجنحة بعضها البعض. مر نحو أسبوع على غياب الذباب، لم يلتفت سكان، بينما كان الذباب متحمسًا للعودة لمواصلة حصوله على الطعام بشكل طبيعي.
يدخل سرب الذباب الحي، صوته المرتفع وألوانه الزاهية تلفت أنظار الناس، يتساءلون عن هذه الكائنات الملونة الصغيرة. الذباب صار يدخل ويخرج دون مقاومة، فالناس منشغلون في التفكير في ماهيته ومراقبة سلوكه. المزيد من أسراب الذباب تأتي إلى الحي، بل إن البعوض بدأ يتفاوض بشأن المساعدة في استنساخ تجربة الأجنحة الملونة!
لكن ماذا يفيد ذلك إذا كان الحي قد صار نظيفًا، الذباب يدخل ويخرج ولا يجد غذاءه. يقضي وقته في الطيران بحثًا عن أي شيء ويكرر ذلك، فيلتفت له أحد الأطفال، ويسأل رفاقه «لماذا لا نحتفظ بهذه الكائنات الملونة الصغيرة؟ يبدو صيدها أسهل من الفراشات». بسرعة يبدأ الأطفال في تنفيذ الفكرة.
بعد أيام، تكون غالبية السرب قد صارت حبيس زجاجات شفافة، والبعض مات جوعًا، والباقي حاول هجرة الحي فأنكره الذباب خارج السرب، بسبب ألوان أجنحته التي لا تجعله يشبه الذباب.
بعد أسابيع، يصير الحي نظيفًا ويختفي الذباب.