معارك الحكام.. والصحافة

عباس الطرابيلي الخميس 26-11-2015 21:29

خاض الصحفيون معارك عنيفة- مع السلطان- من أجل حرية الكلمة.. ولكنهم دفعوا الثمن غالياً.. إذ كل ما يملكونه هو الكلمة.. والقلم.. أما السلطان فيملك- فى مواجهة القلم- كل أسلحة الدولة.. وأبسطها المنع من الكتابة.. أو الحرمان من العمل، أى لقمة العيش.. وفى التاريخ المصرى الكثير من هذه المعارك.

هناك مصطفى أمين، أستاذ الأساتذة، الذى كان أول عقاب له هو حرمانه من نشر سلسلة موضوعات عن ثورة 19، والأسرار الخفية فيها.. وكان ينشرها عام 1963 فى صحف أخبار اليوم.. ولكن هناك من «وسْوَس» فى أذن عبدالناصر أن هدف مصطفى أمين هو إبراز ثورة 19 على حساب ثورة 23 يوليو.. وكان فيما ينشره مصطفى أمين تصحيحاً لكثير مما تريد ثورة يوليو أن تقوله.. وتم منع النشر بعد أن رأى عبدالناصر إقبالاً كبيراً من القراء.. وكان مصطفى أمين يريد بالنشر أن يواجه انفراد محمد حسنين هيكل بأخطر الأخبار السياسية.. بنشر ما يشد القراء من جديد إلى صحف أخبار اليوم، فهل كان للأستاذ هيكل دور فى ذلك؟!

وهذا هو أنيس منصور، وكان من أكثر الكتاب غزارة فى الإنتاج، وقد نشر يوميات فى أخبار اليوم عن «حمارة الشيخ العز بن عبدالسلام» رأى فيها السلطان تلميحاً إلى الصراع بين السلاطين المماليك ورجل الدين الشهير، صاحب فتوى بيع المماليك بحجة أن المملوك لا يجب أن يحكم الأحرار.. وهاج عبدالناصر، وتم فصل أنيس منصور، بل ومنع دور النشر من نشر أى كتب له.. ومنعه من الكتابة، وعاش شهوراً بلا أى دخل!!

بل إن موسى صبرى نفسه - فى العصر الناصرى - تعرض لبطش السلطان ورجال السلطان، لمجرد أنه كتب ينتقد مذيعة تليفزيونية كان النظام يفضلها، هى همت مصطفى.. ووصفها موسى بأن صوتها يشبه صوت المعيز.. وكانت هناك أسباب أخرى، منها أن موسى صبرى كان يغطى محاكمات رجال المشير عامر وكشف الكثير من تجاوزاتهم.. فلم يتحمله السلطان بحجة أن ما يكتبه موسى صبرى يكشف عورات النظام كله وليس فقط رجال المشير.. فتم منعه من الكتابة.. ونقل من أخبار اليوم إلى الجمهورية.. ولكنه تحايل فكان يكتب عموداً دون توقيع نصفه عن آدم يصرخ.. ونصفه الآخر عن «حواء تستغيث»، ولم يعد موسى إلى أخبار اليوم إلا بعد أن هبط توزيع «الأخبار».

وهذا هو مهندس الصحافة المصرية جلال الدين الحمامصى الذى التقى أنور السادات فى السجن خلال قضية الكتاب الأسود وقضية أمين عثمان، وكان صديقاً لجمال عبدالناصر، حتى إنه اختاره فى الشهور الأولى للثورة مستشاراً صحفياً بالسفارة المصرية فى واشنطن أيام كان سفيرنا هناك الدكتور أحمد حسين.. ثم استعان به عبدالناصر عند إنشاء جريدة الجمهورية التى أصدرها عبدالناصر نفسه عام 1953، ثم عند إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط.. ولكنه لم يتحمل قوة شخصية الحمامصى وتمسكه بحرية المواطن فى أن يعلم.. هنا لم يجد الحمامصى إلا أن يهجر الصحافة لينشئ قسماً للصحافة بالجامعة الأمريكية لينقل أفكاره إلى الجيل الجديد من شباب الصحفيين.

ونفس الموقف تكرر بين الحمامصى وأنور السادات رغم زمالتهما فى السجن.. بالذات عندما كتب الحمامصى عدة مقالات فى مقاله الشهير «دخان فى الهواء» عن الذمة المالية لجمال عبدالناصر.. وتم منع نشر مقالات الحمامصى مرة أخرى.

هذه مجرد نماذج للصراع بين الصحفيين والسلطان، مهما كان اسمه.. تشرح كيف تبرم الحاكم من هؤلاء الصحفيين.. ورفضه تمسكهم بحرية الرأى.

ولا أعتقد أبداً أن الرئيس السيسى يمكن أن يلجأ إلى نفس الأسلوب، ولكن هل يستمر صموده.. أم أن استمرار ما نراه من حرية الإعلام قد يدفع الرئيس إلى شىء مشابه، رغم أنه أعلنها صراحة أنه يشكو الإعلام.. للشعب.