بعد 5 أيام من التجوال بين شمال لبنان وجنوبه، طفنا خلالها بجميع ألوان الطيف السياسى والدينى، انتهت الرحلة عند محطة «شارل الحلو»، حيث الحافلات المتوجهة إلى سوريا، لتبدأ رحلة برية شاقة عبر الحدود، استغرقت نحو 7 ساعات إلى حلب، أطالت أمدها إجراءات مشددة للتحقق من الهوية، من قبل الضباط اللبنانيين، بشكل عام، والسوريين على وجه الخصوص.
أما أجمل ما يمكنك الشعور به وسط الشعب السورى، فهو الألفة دون سابق لقاء، ما إن يعرفوا أنك مصرى حتى تنسال كلمات الحب الناعمة رثاء للرئيس الراحل عبدالناصر، وهى المودة التى تتبدل فورا إذا ما أخطأت وأفصحت عن حقيقة ميلك للسادات.
الجولة فى سوريا بدأت بزيارة حلب، والتى وإن تباينت عن دمشق كثيراً فى آثارها التاريخية ومناطقها السياحية الجميلة، إضافة إلى وضعها التجارى كعاصمة اقتصادية وسوق حيوية منتجة ومصدرة للمنسوجات المتميزة، إلا أنها تشترك معها ومع سائر المدن السورية فى اللون السياسى الأوحد، الذى لا ترى غيره، ولا تشعر معه بأن هناك ثمة قوى سياسية أخرى على الساحة، وهو ما تعكسه الأعلام، وشعارات الدعم والتأييد مثل «بنحبك»، وآلاف الصور المتراصة للرئيس بشار الأسد - فى كثير من الأحيان فوق بعضها البعض - على جدران الوزارات والبيوت والجمعيات الأهلية والاستهلاكية والمطاعم والبنوك... إلخ.
كان غالبية المواطنين يكتفون بذكر اسمهم الأول على مضض، حتى «م»، ذلك البائع المثقف فى السوق القديمة، التى تشبه «خان الخليلى»، ففى حين بدا منفتحا للحديث معنا باعتبارنا مجرد سياح، واصفا أحزاب المعارضة المنضوية تحت لواء الجبهة الوطنية الحاكمة بأنها «قطع شطرنج» ومؤكدا أن «الفجوة بين الحكام والشعوب كبيرة»، أبدى تحفظه الشديد لدى سؤاله عما إذا كان يمانع فى نشر هذا الوصف على لسانه، فوافق، شريطة عدم نشر صورته، فكان له ما أراد.وفى دمشق، لم تختلف الصورة كثيراً.. بل لم تختلف قط..
فالأجواء كانت تقريباً واحدة، ولم يكن هناك ثمة مؤشر على أن ميلاً سياسياً مختلفا يمكن رصده بين الرأى العام على مستوى الشارع السياسى، إذ يؤيد غالبية - من تسنى لى الحديث معهم - النظام الحاكم، وكلمة السر تتمثل فى «الاستقرار» الذى توفره الدولة، على حد قول «على» وهو سائق تاكسى فى أواخر العشرينيات من عمره، تساءل مستنكرا، وبقناعة شديدة، عن السبب الذى يمكن أن يجعله أو يجعل أى مواطن سورى يعترض على نظام الحكم، حتى لو كان «توريثا»، طالما أن الحاكم يوفر له «الأمان» داخل بلاده.
ولا يعبأ «على» كثيرا بسير الانتخابات، ولا إذا كانت نزيهة، المهم أن تفرز تلك العملية فى النهاية حاكما يتحلى بالقدرة على فرض الأمن وإرساء الاستقرار مثل الرئيس بشار، ومن هنا، فإنه لا يشغل باله أيضا بمن سيخلف الرئيس الحالى فى الانتخابات المقبلة، لأنه يرى أن الرئيس الأسد يلبى له ما يحتاجه أى مواطن من شعور بالأمن والاستقرار و«الكرامة».
بالمقارنة مع الشارع اللبنانى، لم يكن التنوع السياسى ملحوظا فى دمشق، ولم تكن هناك ألوان طيف سياسى تبعد كثيرا عن تيارات القومية والاشتراكية مع التركيز على الزعامات الشيعية، وربما تمثل التنوع السياسى الوحيد فى هذا البلد فى تعدد صور القادة ما بين الرئيسين الأسد «الأب والأبن»، وأحيانا كثيرة تظهر بجوارهما صور عبدالناصر ونصر الله وأحمدى نجاد، الذى عادة ما تقترن صوره بالإمامين الشيعيين الخامنئى والخومينى،
وهو ما يتضح فى مداخل بعض الفنادق، مثل أوتيل «الشرق» الواقع على مقربة من سوق الحميدية العريق، والذى تتصدر صورة كبيرة للرئيس الأسد واجهة سوره الأثرى، الذى يطوق منطقة المسجد الأموى، والقلعة، والمعبد الإغريقى، ومقام صلاح الدين، وأسواق «الحريقة» و«الخياطين» و«الصاغة» وغيرها من الأزقة المتميزة والمتخصصة فى بيع الأقمشة والذهب والعطارة، وتضج بها أيضا محال الـ «سوفينير» التى تبيع علب الصدف وميداليات المفاتيح، أغلبها محلى بشارات وصور وأعلام أولئك الزعماء.