حتى لو أصلحنا الخطاب الدينى، حتى وإن جددناه أو صوبناه أيا كانت المسميات، فأى آذان صاغية سيتجه إليها؟ وأى عقول واعية سيخاطبها؟ وأى إدراك للغة سيستخدمها؟ انحدر التعليم إلى الدرك الأسفل، واكتسبت اللغة العربية نفوراً لدى طلاب المدارس، الذين أصبحوا يفضلون أى لغة أجنبية- إن وُجدت- عنها. تفننت الكتب المدرسية فى استنباط قواعد النحو المهجورة والمعقدة، لتهديها إلى التلاميذ منذ المرحلة الأولى الابتدائية، قواعد نحوية لن يستخدموها أبدا فى حياتهم المقبلة، حتى لو أصبحوا كُتاباً، أحدثت شرخا عميقا بينهم وبين لغتهم القومية، فسادت المفردات الأجنبية فى لغة الحديث، ومعها مفردات الشارع المشوهة، هذا عن اللغة، أما الوعى والثقافة التى يفرزها التعليم الحالى فلا تعليم ولا ثقافة، وشهادات تُكتسب بلا قيمة فى فصول تكدست بالمئات لا يحضرها المدرسون المنشغلون بالمدارس الموازية بالخارج.
هذا هو حال الوعى العام فى أخطر فئة فى الشعب المصرى، فئة المستقبل القريب الذين نعول عليهم والذين وجب علينا حمايتهم من الأفكار المغلوطة عن الدين والدنيا، هم البيئة الخصبة للاستقطاب من قِبَل مُدعى التدين ومروجى الإرهاب ومعاداة أى آخر، أى عقول سنخاطب وأى وعى وفهم سنجد وبأى لغة سنتحدث إليهم؟ بكلاكيع النحو والصرف؟ بالألفاظ المهجورة الآتية من غياهب التاريخ، والتى تتمسح بالصبغة الدينية حتى تكتسب تعاطفا وقبولاً؟ حرمناهم المدرسة والتعليم والتربية، فلا يجب أن ننتظر منهم الفهم والوعى وحسن الاستقبال.
وفى محيط من الأمية تجاوز نصف عدد السكان وقد يكون قد اقترب من ثلثيه، ماذا ننتظر؟ حتى لو انصلح وتجدد وتغير الخطاب الدينى، فأى آذان صاغية سنجد؟ وأى فهم وقبول سنتوقع؟ جربوا أن تخاطبوا البسطاء من أهالينا بأفكار دينية صحيحة مخالفة لما درجوا عليه لسنوات ومناقضة لما تلقوه من أفواه خطباء الزوايا، ستلقون رفضا واستنكاراً واضحاً، وربما راودتهم أفكار خروجك عن الدين والملّة وتأثرك بأصدقائك من الكفرة، والعياذ بالله، سيأخذون كلامك- ربما- بحسن استقبال كياسةً وحياءً، ثم يطرحونها بعيداً وبعيدا جداً عما استقر فى أذهانهم عبر سنوات عجاف من التشكيك فى كل ما هو جميل ويسير وبسيط من أحكام الدين الإسلامى الصحيح، ذلك أن فقهاء الغبرة أوعزوا إلى المجتمع بأسره بأن الدين عسر لا يُسر، مشقة فى الحياة وعذاب فى الآخرة، استنبطوا كهنوتا لا يُدركه إلا هُم وجعلوا من أنفسهم مراجع لا تُرد، وأحاطت فتاواهم حتى بآداب دخول الحمام وبأى قدم.
إصلاح أو تجديد أو تصويب أو ترشيد الخطاب الدينى يلزمه محيط مغاير مواكب له: مواجهة حقيقية لمشكلة الأمية، تعليم حقيقى ومدارس حقيقية، وبدايتها مدارس وجامعات الأزهر، ثقافة عامة، كتب ومسرح وسينما وموسيقى وفنون رفيعة تحب الحياة وتحتفى بها، إعلام لا يروج لفتاوى الزمن القديم ولا يستضيف مَن يهلل لها، يلزمه مناخ عام قادر على استقبال وفهم الخطاب الجديد، وفيما عدا ذلك ستظل الآذان موصدة والأفهام منغلقة.