اليوم، تجد فرنسا نفسها أمام تحد يهدد قيمها وأسس نظامها السياسى. هذه المرة لم يستهدف الإرهاب مجلة اعتادت السخرية من الإسلام أو من المقدسات، بل مواطنين عاديين وروعهم. والمشكلة هى أن هذه العمليات الإرهابية نبعت من الداخل، من مواطنين فرنسيين (من أصول عربية)، لم ينجح النظام فى إدماجهم بداخله، فصاروا عناصر تهدد أمنه وقيمه. المجتمع فى فرنسا خائف ومنزعج من فكرة استباحته بهذا الشكل، اليمين المتطرف يصطاد فى المياه العكرة، أما الرئيس الفرنسى فقد أعلن مد قانون الطوارئ بعد موافقة البرلمان.
فى مصر، تم إغلاق المجال العام برمته تحت دعوى محاربة الإرهاب، بل وتحول الدفاع عن فكرة انتهاك حقوق المواطن، وخرق القانون إلى «لبانة» فى فم الجميع. فهل تطلق فرنسا العنان لقانون الطورائ فتتغول الأجهزة الأمنية ويتقيد الإعلام من أجل محاربة الإرهاب، أم تتمسك بقيم الحرية والعدالة والإخاء التى نضالت من أجلها؟ فعليًا، تتوقف الإجابة على أمرين:
يتعلق الأول بالحفاظ على ضوابط دولة القانون فى مواجهة زيادة سلطات الأجهزة الأمنية المتوقع بموجب قانون الطوارئ، بما يعنى عدم إطلاق يد الأخيرة بلا قيد أو رقابة، بل محاسبة من يتجاوز، كما هى العادة فى أوروبا. حتى الآن البداية جيدة، فالرئيس الفرنسى لم يدع إلى تأزيم الأمور، وتكبيل الناس بل على العكس، أكد: «لا يمكن التغلب على الإرهاب بالانعزال وتعليق الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، أو حظر المباريات الرياضية». وهو ما يتفق فعليًا بإيمانه بقيم الديمقراطية التى عبر عنها فى خطابه إثر حادثة شارلى إبدو: «أدعو جميع الفرنسيين إلى الوقوف معًا للتعبير عن قيم الديمقراطية، والحرية، والتعددية، التى نعتز بها».
أما الثانى فيخص مدى قدرة المجتمع بتنظيماته المختلفة (نقاباته، اتحاداته الطلابية، أحزابه السياسية.. إلخ) على التمسك بالقيم التى آمنوا بها، والوقوف بشكل منظم لوقف أى انتهاك لها. والحقيقة هى أن هناك بوادر إيجابية لهذا التوجه حتى من قبل أن تظهر أى انتهاكات، حيث تصريحات رؤساء النقابات الصحفية المؤكدة أن انتهاك الحريات فى سبيل مواجهة الإرهاب يعنى الوقوع فى الفخ الذى نصبه الإرهابيون. وهنا، لا يمكن أن ننسى تظاهر عشرات الآلاف من المواطنين عقب أحداث شارلى إبدو، بشكل تلقائى، احتجاجًا على ما اعتبروه انتهاكًا لقيمة دافع عنها أجدادهم بدمائهم: قيمة حرية الرأى والتعبير.
وعلى العكس، فى مصر، تحشد الدولة لمحاربة الإرهاب، ولا تدعو شعبها، ولو بالخطأ، إلى الحفاظ على القيم الإنسانية ودولة القانون، بل يحمل ثنايا خطابها دعوة إلى غض النظر عن التجاوزات، وعدم المطالبة بإصلاح المؤسسات رغم ترهلها. أما المجتمع المفكك، فمازال من جهته غير قادر على الدفاع عن قيم القانون والعدل. والأكثر من ذلك، هناك قطاعات مؤثرة وغير قليلة فيه تصر على الربط بين ضرورة انتهاك حق الإنسان فى الحياة بكرامة من جهة، وبين محاربة إرهاب يسلب حق الإنسان فى الحياة من جهة أخرى. لذا وأخيرًا، نؤكد أن موضوع قدرة الدولة والمجتمع فى فرنسا على مواجهة تحديات انهيار قيم القانون والديمقراطية لايزال مفتوحًا، وإن كانت الأمور مبشرة حتى الآن. أما فى مصر، فيبدو أنهما قد حسما أمرهما، أيضًا حتى الآن، فى الاتجاه المعاكس.