في فيلم (the others) الشهير، تنطلق عقدة الرواية وحبكتها، من الهاجس الذي يرواغ الأسرة التي تسكن هذا البيت القديم من أن هناك «آخرون» يستخدمون معهم البيت.
هم أشباح أو أطياف أو شيء ما لا ندريه، لكنهم يشاركونهم المنزل، ويحدثون جلبة وضوضاء من حين لآخر.
يسيطر الرعب على مجريات الفيلم، إلى أن تتضح الحقيقة المفزعة في النهاية، فنحن نتابع الفيلم من منظور الأشباح لا من منظور البشر!
فأبطال الفيلم هم الأشباح لكنهم لايدركون، والذين يستخدمون البيت هم السكان البشريون، أما الأشباح/الأبطال فهم الثانويون الطفيليون على مسار الأحداث .
اكتشفنا أن الأبطال هم «الآخرون».
(2)
يقطع الواحد الطرقة جيئة وذهابا في أعقاب كل كارثة تحل علينا أو تطرق أبواب البلد.
في الساعة الأولى أقول، هم لاشك يتابعون الكارثة ويحددون المعلومات الأولية قبل أن يتصرفوا..
في الساعة الثانية أدير الأفكار في رأسي وأقول لابد أنهم يستوثقون مما حصلوا عليه ويدرسون الموقف..
في الساعة الثالثة أقول لقد تأخروا كثيرا من الشيء.. لكنهم بالطبع يضعون الآن سيناريو محكمًا للتعامل مع الأزمة..
في الساعة الرابعة «أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل» مثلما قال المتنبي..
في الساعة الخامسة، يداهمني اليأس..
في الساعة السادسة أتيقن من أنهم لن يتصرفوا..
في الساعة السابعة ومع كثرة اللغط، أدرك أن الأزمة تتفاقم، والرأي العام يضطرب والحقائق تتداخل والمعطيات تتشوش، وكل شيء يموج في بعضه موجًا..
في الساعة الثامنة، أتساءل: أليس بينهم من يرصد ما يجري؟ أليس هناك من يمكنه أن يتدارك الوضع السيء؟
في الساعة التاسعة أنام.
في الساعة العاشرة أقوم قلقا، أتابع لعل شيئا تغير..لكن الوضع كما هو عليه.
في الساعة الحادية عشر أنام..
في الساعة الثانية عشر، أستيقظ قلقًا لأدرك حقيقة واحدة. أن «هم» الذين أفترض وجودهم ليسوا موجودين أصلًا!
(3)
يفترض الواحد أن لكل فعل رد فعل، وأن هيئات الدولة أو الذين يفترض أنهم يمسكون بمقاليد الدولة يتصرفون، يخططون، يتفاعلون..أضعف الإيمان، يدور بخلدهم شيءٌ ما!
لكن الأزمات تتوالى تباعًا وكأن لا أحد هنالك على الإطلاق، وكأن قصور الحكم محبوكٌ حولها خيوط العنكبوت، وتنتثر الأتربة على السلالم والطرقات.
يتابع المرء حسرة المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي وهم يقترحون التصرفات والحلول، وهم ينقمون على الذي «لايحدث» والذي «لا تفعله الدولة»، وينتظر أن يقرأ أحد ما شيئا، فيتصرف، فيبدي رد فعل، فيفعل أي شيء.. لكن لا أحد هنالك.
مع الوقت يحس المرء أن سكان قصور الحكم هم الأشباح، هم الآخرون، المحجوبون، الذين لايملكون من الأمر شيئا، وأن العالم من حولهم هو العالم الحقيقي، وأن ما يجري ليس هاجسًا في أذهانهم، بمقدار ماهم أطيافٌ عابرة وأنهم الهاجس الثانوي الجانبي على هوامش ما يجري.
(4)
الدولة ليست كفؤة.. بل هي ليست موجودة حتى على المستوى البلاغي:
القدرة على إصدار بيان متماسك، صياغة خطاب متسق، إقرار حقائق ونفي شائعات.
وهذا أضعف الإيمان.
مع الوقت صرنا لا نطالبهم بالفعل، بل بالتظاهر بأنهم موجودن أصلا.
يصعب أن يتجاهل المرء حسرة الرئيس السيسي وهو يتحدث، انفعالاته العميقة، غضبه المتألم. لكن كل هذا لايفضي لشيء ولا يتغير على ضوئه أي عنصر من عناصر المعادلة.
لاينكر على الرجل صدقه، واتساقه مع ما يعتقد (الذي لاندريه كاملا بالمناسبة، فهو إما أسير برنامج لم يفصح عنه حتى الآن، أو حبيس نواياه الطيبة التي لا تسعفها الجمل المنطوقة في ترجمتها، ليظل الأمر كله سريًا حتى اللحظة، وليس في مقدورنا سوى الرهان على صدق الرجل في واحدة من شواذ وغرائب وقائع الحكم والملك في تاريخ البشر!)
صادف المرء –للأمانة- جانبا من حسن النوايا ورفيع الأخلاق، لكن الأمر خاضع لاجتهادات شخصية لا ينظم عملها منظومة من أي نوع على الإطلاق. وكأن شخصًا جيدًا يفعل شيئًا جيدًا لأن هذا أقصي المتاح، لا لأن الدولة «تريد» أن تفعل شيئا جيدا و«يمكنها» ذلك.
يأسى المرء حين يرى «اللادولة» وهي تمارس هوايتها العجيبة في «اللافعل»، بينما الكوارث تترى تباعًا.
أيها الذين لستم موجودن، لا يعرف المرء، هل من العقل في شيء أن يخاطبكم وهو ينفي وجودكم أم لا، لكن بالله، افعلوا شيئا أو دعوا غيركم يفعل!