انْهَرْنا فسيولوجيا بعد أكلة سمينة من لحم الضأن المشوى والخبز الطازج مشفوعة بأقداح من شراب تقليدى من مشروبات دارفور يطلقون عليه اسم «شربوت»، وأظنه نتاج للكركديه المختمر، ولا أعرف إن كان الخدر الذى سرى فى جسدى بعدها من فعل هذا الاختمار أم من فعل البنج الذى يتركه دهن الضأن فى العروق.
واستلقينا جميعا تحت شجرة مانجو شابة فى منتصف موسم الإثمار، ننظر إلى السماء من بين فروع الشجرة التى استأجرنا الجلسة والنومة تحتها من صاحبها مقابل خمسة دولارات، وننتظر سقوط حبات المانجو الناضجة متى عنّ لها السقوطن وأينما اتفق.
وقام أحد الزملاء من أبناء إذاعة جنوب دارفور، وكان اسمه أحمد أبوعشرة، وله صوت رخيم عميق كان من الممكن أن يجعله أفضل مذيع فى العالم لو توافرت له بوابة أوسع من تلك الإذاعة المحلية فى دارفور.. قام أبوعشرة وأدار جهاز كاسيت عتيقا انسابت منه أغنيات سودانية أكملت مشهد الاسترخاء الذى أكاد أقسم إنه مقتطع من ذكريات آدم فى الجنة.
تلاميذى فى فن الإذاعة الذين تحولوا فى يومين إلى أصدقاء مقربين، ثم إلى أساتذة لى فى فنون الأكل والاستلقاء تحت الشجر والتوقف عن التفكير والتخلص من الحياة العصرية.. يستلقون جميعا إلى جوارى وكلهم سودانيون ألزمهم واجب الضيافة مصاحبتى باعتبارى مبتعث الإذاعة البريطانية لتدريبهم، وأنا المصرى الوحيد بينهم، لكننى كنت أرتدى الملابس التقليدية السودانية.. القميص والمركوب المصنوع من جلد الكوبرا والشال المطرز باللون الأزرق والطاقية مكعبة الشكل التى كنت أميلها إلى الأمام كعادة أى صعلوك سودانى تحلو له العياقة والمنظرة.
وانطلق صوت السودان الأول، المطرب والموسيقار عبدالكريم الكابلى، من الكاسيت العتيق يقول: مصر يا أخت بلادى يا شقيقية.. يا رياضا عذبة النبت وريقة.. مصر يا أم جمال ويا أم صابر.. ملء روحى أنت يا أخت بلادى.. سوف نجتث من الوادى الأعادى.
ويكرر الكابلى المقطع مرة ثانية، وفى المرة الثانية نردد جميعا معه: مصر يا أخت بلادى يا شقيقة.. وكنت مثل أصدقائى السودانيين أحرص على أن أنطق القاف غينا.. يا شغيغة!
وتدور أحاديث الرفقة الطيبة عن مصر الجميلة التى رآها بعضهم وتصورها البعض الآخر فى خياله، وتثور الشجون المنطقية تجاه عنصرية المصريين، وحول عقدة الشقيقة الكبرى التى لا تجيد الذائقة الوطنية السودانية المتأججة دائما ابتلاعها والتكيف معها، وحول الحلم الراسخ فى الوجدان السودانى عن ملايين المصريين الذين سيأتون يوما إلى أراضى السودان الخصبة حاملين المعاول والفؤوس والمحاريث، ليزرعوا الأرض التى لن تزرعها إلا أيدى المصريين الخضر.. لينمو السودان وتربح مصر.. ونجتث من الوادى الأعادى.. يا مصر يا أخت بلادى يا شغيغة.. حيث كان كل حديث ذى شجون ينتهى.. عند مصر التى هى «أخت بلادى».. والتى هى «ملء روحى أنت يا أخت بلادى».
تابعت على تويتر، أمس، هذا الوسم المسمم #مصر_ليست_أخت_بلادى.. الذى أنشأه سودانيون غالبا ردا على تعذيب مواطن سودانى فى قسم عابدين إلى درجة أنه يتلقى العلاج النفسى الآن من شدة ما حاق به من كرم الضيافة الميرى فى وطنه الثانى، وبلده الذى كان يظنه شغيغا.
واسترجعت ذكريات الأشهر الطويلة التى قضيتها فى السودان حاملا لقب «ابن النيل»، وهو اللقب الذى يحصل عليه المصرى مجانا بمجرد أن تحط قدمه على أرض السودان، ومتمتعا بالتفضيل فى المعاملة على السودانى ابن البلد لمجرد أننى مصرى، ومتسائلا دائما: ما بال هذا الحب ككل حب مفعم يأتى دائما من طرف واحد؟
وكيف يفسر أمر فساد هذه العلاقة الحيوية فوق الاستراتيجية بعنصرية أو تعال، بينما هو فى حقيقة الأمر جهل وتجهيل بالسودان وأرضه وشعبه وتاريخه ومدى أهمية العلاقة بين شعبى وادى النيل؟!.. جهل مطبق بهذا الصوت المنساب منذ عشرات السنين فى صحراء السودان وغاباته يصدح بأن مصر أخت بلاده، وأنها أم جمال وأم صابر، ولا يصح أن يأتيها السودانى فلا يجد فيها من وجوه الوطن إلا أنها تسحقه وتهين كرامته بالتساوى كما تهين كرامة مواطنيها وتسحق