الأُمة النرجسية

جمال أبو الحسن الأحد 22-11-2015 21:13

«وإنى وإن كنتُ الأخير زمانُه... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل». حفظنا هذا البيت صغاراً لأبى العلاء المعرى- فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة. حُفر فى ذاكرتنا أيضاً ما قاله المتنبى: «أريد من زمنى ذا أن يُبلِّغنى... ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ». اذهب إلى أى طبيب نفسى، سيقول لك فوراً إن هذا الكلام، هذا النوع من الفخر بالذات، يعكس خللاً نفسياً معروفاً وشائعاً، اسمه العلمى: اضطراب الشخصية النرجسية.

عُلماء النفس يقولون إنه بلا علاج تقريباً. المُشكلة أن النرجسى شخصٌ لا يعترف من الأصل بأن لديه مشكلة. هو بارعٌ فى إلقاء اللوم على الآخرين. لا يتحمل مسؤولية عن خطأ. العيب دائماً فى الناس، وليس فيه. مواجهته بحقيقة مرضه تكون نتيجتها فى الغالب إنكاراً كاملاً. قد يُصاحب ذلك الإنكار ردُ فعلٍ عنيفٍ من جانبه. اضطرابات الشخصية قلما تُعالج. هى- بالتعريف- جزء من نسيج الشخصية ذاتها.

جوهر النرجسية هو عدم الاكتراث بحاجات الآخرين ورغباتهم. التمحور حول الذات بصورة كُلية. الشعور بالاستحقاق. بالأفضلية والتفوق على الآخرين. بحتمية اعتراف الآخرين بهذه الأفضلية والتميز. النرجسيون ذواتهم مُنتفخة. يقيمون أنفسهم بأكثر كثيراً مما يستحقون، ومما هم عليه بالفعل. ثمة بونٌ شاسع بين ما يتصورونه عن أنفسهم، وبين حقيقتهم. يجمع بينهم الرغبة فى جذب الانتباه وحب الظهور.

أكاد أرى بعض القلق يعتريك! هوٍّن عليك: الصفاتُ السابقة موجودة فينا جميعاً بدرجات متفاوتة. ليست كل نرجسية مرضاً، بل إن بعض النرجسية لا يضُر. شعور الإنسان بذاته، بأهميته وتفوقه فى بعض المناحى، ليس شيئاً سلبياً. حاجة المرء إلى اعتراف الآخرين بهذا التفوق ليس دائماً نقيصة. بل هى فضيلة يحتاج إليها الإنسان السوى للنجاح فى الحياة، خاصة فى مرحلة الشباب.

متى تُصبح النرجسية مرضاً خطيراً واضطراباً ظاهراً فى الشخصية؟

لستُ متخصصاً بالطبع. أنقل هنا ما جمعتُ من معلومات أولية عن هذا المرض. أصل النرجسية- وللعجب- هو شعور مختزن بالضعة والدونية. هذا الشعور يعود- كمعظم الاضطرابات النفسية- إلى سنوات النشأة الأولى. النرجسيون يعانون من ذواتٍ مُحطمة مكلومة. هم يختزنون فى داخلهم شعوراً بالخزى. ينجحون فى كبت كل ما يتصل بهذا الشعور من ذكريات مؤلمة. يختزنونه إلى حد نسيانه كُلياً. يحولونه بعدها إلى نوع من التعاظم على الآخرين. فى داخل كل نرجسى خزى هائل مكتوم ومكبوت. لذلك فإن النرجسيين لا يُمكن أن يقبلوا نقداً. أقل انتقاد لذواتهم يجرح كبرياءهم، ويستدعى لديهم هذا الشعور الدفين بالخزى. ينكأ «جرحهم النرجسى». الأكثر من ذلك أن النرجسيين يُسقِطون ضعفهم المكبوت على الآخرين. هم بارعون فى التقاط عيوب الآخرين. فى التركيز عليها، واستغلالها، والضرب فيها بلا هوادة. النرجسيون قُساة للغاية مع من حولهم. شعورهم بالتعاطف الإنسانى مع الناس شبه معدوم.

الآن.. دعنى آخذ المسألة إلى مستوى آخر. هل يُمكن أن تُصاب حضارة بما يُسمى «اضطراب الشخصية النرجسية»؟ أدعوك إلى قراءة الفقرات السابقة فى المقال ثم إسقاطها على حضارتنا العربية والإسلامية.

«الجُرح النرجسى» الذى أصاب حضارتنا لا يحتاج إلى طبيب متخصص ليكشف عنه. العربُ والمسلمون كانوا أسياد الدُنيا لقرون. يقول الشاعر مهيار الدليمى: «قد ضممتُ المجدَ من أطرافِه.. سؤددَ الفرسِ ودينَ العربِ». «مهيار»- الفارسى الذى أسلم- عاش فى بغداد فى القرن الحادى عشر الميلادى. فى هذا الزمن كانت بغداد أكبر مدينة على ظهر الأرض. البعض يُشير إلى أن تعداد سُكانها تجاوز المليون نسمة، فى وقت لم يكن فيه تعداد أكبر المُدن الأوروبية يزيد على عشرات الآلاف. عندما يقول مهيار إنه «ضمَّ المجدَ من أطرافه» فهو بالفعل يعكس روح عصره، وواقع زمنه.

غير أن شعور الحضارة العربية الإسلامية بالسيادة والأفضلية على العالمين تحول إلى «عقدة نفسية» مريرة مع الهوان الذى صاحب أفولها. المشكلة أن ذلك الأفول صاحبه صعود فى حظوظ الغرب المسيحى، العدو التاريخى للإسلام. مع مجىء الاستعمار الأوروبى تحول الهوان إلى شعور مُختزن بالعار. الفشلُ فى اللحاق بركب الحضارة الحديثة بعد التحرر الوطنى عزز هذا الشعور. هنا، وُلدت «الأمة النرجسية».

الأمة النرجسية لا تعترف أبداً بأخطائها أو عيوبها. دائماً، العيبُ فى الآخرين. نحن كاملون منزهون مثاليون (كارثة الطائرة الروسية نموذجاً).

الأمة النرجسية تُفرز الآلاف من المرضى المصابين باضطراب الشخصية. بمعنى من المعانى، يُمكن القول بأن الداعشية تُمثل مرحلة متقدمة من النرجسية القاتلة. رغبة حارقة فى جذب الانتباه، واجبار الآخرين على الاعتراف بالأفضلية. الداعشى الشاب يريد انتزاع الاعتراف بأنه أقوى من الآخرين لأنه قادرٌ على قتلهم، بل هو قادرٌ على إلقاء الرعب فى نفس مُجتمع بأكمله. ضعف الناس وقلة حيلتهم أمام هذا العنف الأقصى يُمثل مصدراً لسعادته وشعوره بالرضا عن ذاته (مذبحة باريس وردود الأفعال عليها كنموذج).

الأمة النرجسية لا تشعر بالتعاطف الإنسانى. لا تكترث لآلام الآخرين. إدراكها يتمحور حول ذاتها. (تأمل صُراخ الجمهور التركى مُحتجاً على دقيقة الحداد على ضحايا مذبحة باريس).

الأمة النرجسية تغص بملايين النرجسيين. هم حولنا فى كل مكان، فى السياسة، على صفحات الجرائد ووراء الشاشات، على فيسبوك وتويتر، فى الحكم والمعارضة على حد سواء. هم على صواب دائماً. يعرفون كل شىء. لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم.

الأمةُ النرجسية لا تعرف أنها مريضة. هى- مثل أى مُصاب باضطراب الشخصية- لا تعترف بالمرض. علاجها شبه مستحيل. أمامها- ربما- فرصةٌ وحيدة للشفاء. هل تعرف ما هى؟ أن تقرأ هذا المقال العظيم، الرائع، نادر المثال، كامل الأوصاف.. الذى كتبتُه أنا!! وربنا يشفينا جميعاً!

gamalx@yahoo.com