سأتوقف عن الحديث عن البرلمان والتشريع والدستور وغير ذلك من القضايا التى انشغلت بها وشغلت القارئ معى منذ أمد. انشغلت بها منذ أن شرع مبارك فى تعديل الدستور عام 2005 لتوريث الحكم لابنه ثم تعديل 2007 حتى قيام ثورة يناير، وما تبعها من تداعيات دستورية سمتها الغالبة التخبط الشديد وغلبة المناورة والمصالح الفئوية على مصلحة الوطن وبيع العديد من رجال القانون ضمائرهم لخدمة من يدفع أكثر ماديا أو معنويا أو سياسيا. وعلى من يريد أن يتابع تاريخ هذا الملف المرهق أن يبحث عن مداخلاتى فى صفحات (المصرى اليوم) (والشروق) ومواقع اليوتيوب ليشاهد ويقرأ مالا أحبذ قراءته أو مشاهدته الآن فى وقت تتسم فيه الساحة السياسية المصرية بالإرهاق الشديد.
سأتوقف عن الحديث عن البرلمان والتشريع والدستور لأن تطورات السياسة قد أسفرت على أرض الواقع عن مجموعة من الحقائق التى يجب التعامل معها:
1- إن قوى ثورة 25 يناير كانت قوى حالمة تعلم ما لا تريد وهو إسقاط النظام القائم ولا تعلم ما تريد، اللهم إلا بعص الصياغات الفضفاضة التى لا تصلح برنامجا للتغيير.
2- إن النخبة السياسية التى كان من المفترض أن تقود عملية التغيير كانت مغرقة فى انتهازيتها ورؤيتها الذاتية، وبالتالى لم تقدم للجماهير الثائرة دليلا للعمل يرشدها إلى تحقيق أهدافها. بل سعت إلى السلطة من أجل السلطة. وكان السلطة (أو التسلط) وحدهما هما هدف تسعى إليه القوى السياسية ولا يهم ماذا تريد أن تفعل هذه القوى بهذه السلطة. سعت أكثر القوى تخلفا فى مصر وهى القوى التى تخلط بين السياسة والدين إلى استقطاب الفقراء وهم أغلبية هذا الشعب ونجحت فى ذلك. وسعت القوى المدنية المتشرذمة إلى إسقاط مشروع الدولة الدينية ونجحت فى ذلك بمساعدة الجيش. وغاب اليسار تماما أو وقف عاجزا. وتلعثم الجميع أمام الإجابة على سؤال: ماذا سنفعل بالسلطة؟ حتى الدستور الذى وضعته مجموعة من خيرة أبناء مصر تركوا أهم شىء فى الدستور وهو تحديد شكل وبنية السلطة التشريعية لقرار يصدر من السلطة التنفيذية. وهكذا أصبحت السلطة التنفيذية هى ولية أمر السلطة التشريعية فى سابقة لم تعرفها دول العالم الديمقراطى من قبل.
3- ثم عادت ثنائية الأمن ولقمة الخبز من ناحية والحرية من ناحية ثانية لتطل بوجهها من جديد وليفضل المصريون أمنهم وعيشم على (سفسطة) الحرية والديمقراطية التى ثرثر بها الثوار الخونة.
4- وكما دأب الجبرتى على القول، (عاد كل شىء فى مصر إلى مثل ما كان عليه وزيادة)
ولا أظن أن البرلمان القادم سيغير من الأمر شيئا أو سيحقق طموح المصريين فى التعليم الجيد، أو فى العلاج الصحى الكفء، أو فى السكن اللائق، أو فى التوقف عن إهانتهم فى أقسام الشرطة، أو فى الإدارة الكفئة للاقتصاد والمشروعات القومية. فقط استعرضوا أسماء المرشحين الفرديين وفى القوائم واسألوهم سؤالا واحدا: كيف ستفعلون الدستور؟ وتصونون الحريات والعدالة الاجتماعية؟ وتمنعون التمييز بين المواطنين؟ وتحاربون الفساد وتطهرون الإدارة المصرية من أدرانها؟ وتقضون على البيروقراطية؟ ولن تجدوا إجابة من أحد. الأحزاب وحدها تستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، ولكن الجاد منها أقصى عن عمد عن المنافسة السياسية بواسطة قانون فريد من نوعه. كل المرشحين يريدون الحصانة والسلطة من أجل السلطة. حكى لى بعض كبار موظفى البرلمان السابق أن أعضاء هذا البرلمان لم يكونوا قد قرأوا اللائحة أو الدستور ولم يكونوا يعرفون الفارق بين الاستجواب والسؤال وطلب الإحاطة ولا كيف يطلبون الكلمة للحديث. (عقد دورات تدريبية للبرلمانيين أمر مهم).
والذى سيحدث من الناحية الفعلية أن مئات التشريعات التى صدرت فى غيبة البرلمان ستتم الموافقة عليها دون مناقشة جدية فى جلسة أو جلستين أو يزيد. وستتولى الحكومة إعداد مشروعات القوانين التى ستتم الموافقة عليها حتى لو وجدت نزعات متواضعة لدى بعض الأعضاء للرغبة فى النقاش. وبدلا من المرحوم كمال الشاذلى الذى كان يشير بإصبعه لأعضاء حزبه بالكلام أو الصمت سيحل شخص ما مكانه.
وعاد كل شىء لمثل ما كان عليه وزيادة. لذا سأتوقف عن الحديث عن البرلمان والتشريع والدستور. فالدساتير لا توضع فى منطقتنا العربية لتطبق وإنما لترفرف فوق رؤوسنا كالأعلام. وسأتحدث عن أمل متواضع فى رشد الدولة. نحن المصريون لا نريد أكثر من أن تؤدى الدولة واجباتها بكفاءة. كل ما نريده هو تعليم جيد وعدالة محايدة ناجزة وقانون لا يستثنى أحدا من تطبيقه وعلاج كفء وماء وكهرباء. نريد للدولة المصرية أن تعود إلى رشدها الذى كانت عليه فى القرن التاسع عشر لا أكثر ولا أقل. هل هذا بكثير على من يتولون السلطة؟ هل كثير عليهم ألا تغرق مدن مصر فى مياه وأوحال الأمطار؟ هل كثير عليهم أن تتحول مدارس وجامعات مصر إلى مكان حقيقى لتلقى العلم والثقافة والتنوير؟، هل كثير عليهم أن يوفروا للمصريين الغذاء والعلاج والدواء.؟ هل كثير عليهم أن يصونوا كرامة المصريين عند تعاملهم مع أجهزة الدولة؟ هل كثير عليهم أن يحققوا لمصر وأهلها عدالة ناجزة تعيد الحقوق إلى أصحابها بدلا من الحديث عن السادة والعبيد؟ هل كثير أن يضعوا نظاما فعالا لتأمين الطائرات والسياحة؟
إن كان هذا كثيرا أو صعبا عليهم فليشاوروا أهل العلم والرأى وهم كثر فى مجتمعنا الثرى بخبراته (والتى ليس من بينها خبرات الهواة) والمتعثر بل والمتعجل فى قراراته مع التسليم بسلامة القصد وحسن النوايا.
وللحديث بقية.