درجت الكتب والأبحاث والدراسات المعنية بنظم الحكم على القول دائمًا بأن الديمقراطية شر لا بُد منه، بل أردفت دراسات أكثر حداثة بأن أسلوب الانتخابات ليس بالضرورة هو الأفضل فى الاختيار لمجلس برلمانى أو حتى محلى، حيث وعى هؤلاء وأولئك العوامل المؤثرة فى العملية الانتخابية بدءًا من استخدام «رأس المال» مرورًا بتوظيف «العقيدة الدينية» وصولًا إلى استخدام «العصبية القبلية» أو «العائلية» التى قد تصل إلى حد «البلطجة»، ولكن هؤلاء الباحثين عادوا يتساءلون إذا كان الأمر كذلك فما هو يا ترى البديل الذى يمكن أن نتخذه معيارًا جديدًا للديمقراطية بمدلولها الحديث، خصوصًا أن هناك دولًاـ منها «مصر»ـ تتمتع برأى عام قوى رغم ضعف مؤسساتها الديمقراطية، وتخلف دورها على امتداد العقود الأخيرة! فإذا كان الأصل فى الديمقراطية أنها تعبير عن «الرأى العام» وترجمة رقمية للتيار الغالب تجاه قضية معينة أو شخصية بذاتها فإن قياسات الرأى العام الدقيقة والأمينة يمكن أن تكون مؤشرًا استرشاديًا يُعتد به، وهنا تعن لنا الملاحظات التالية:
أولًا: إن الديمقراطية هى قضية وعى سياسى يرتبط بمستوى التعليم ونسبة الأمية، فالجهل بكل درجاته يؤثر سلبًا على مفهوم المشاركة السياسية والأسلوب الذى تقرر به الأغلبية المسار الوطنى من أجل المصلحة العليا للبلاد، ومن عجب أن دولة كبرى مثل «الهند» تتمتع حاليًا بنظام ديمقراطى ضخم رغم تفشى الأمية ووجود جيوب للتخلف أحيانًا مع تراكم الميراث الثقافى الثقيل الذى لا يخلو من خرافة، بل قد يعادى الحداثة أيضًا، ولكن وعى المواطن الهندى قد تجاوز مستواه التعليمى، وأصبح وفقًا لـ«نظرية الضرورة» تعبيرًا عن إحساسه الغريزى بإمكانية تحقيق مصلحته من خلال تحقيق مصلحة المجتمع.
ثانيًا: إن الفقر والعوز والحاجة هى عناصر تنال من قيمة الديمقراطية وتهبط بها إلى مستوى «الرشاوى» الانتخابية واستخدام المال السياسى وسيلة للتأثير على أصوات الناخبين والعجز عن التعبير الحر الذى يسمح بوجود إرادة حرة، ولقد قالوا دائمًا إن حرية «تذكرة الانتخاب» ترتبط بـ«رغيف الخبز» وقد لا نستطيع أن نلوم بشريًا فقيرًا يقبل منحة انتخابية فى مقابل صوته، فالمحتاج غالبًا هو معدوم الإرادة، ولا حرية سياسية دون حد أدنى من الإشباع الاقتصادى، والفقر فى بلدنا قنبلة موقوتة لا نتجاهل تأثيرها ولا نقلل من خطرها.
ثالثًا: إن الحضارات القديمة والثقافات التى تضرب بجذورها فى الأرض التى ارتبطت بها وخرجت منها منذ فجر التاريخ متمثلة فى مجموعة من القيم والتقاليد مع تراكم التراث الإنسانى هى ذات تأثير بالضرورة على السلوك الديمقراطى لأنها تجعل شعوبها عصية على التحول نحو الديمقراطية الحقيقية؛ إذ إن تلك الشعوب تبحث فى تاريخها وتنقب فى تراثها وترفض الديمقراطية الغربية الوافدة إليها وتراها صناعة أجنبية لا تتواءم مع ماضيها، ولا تعبر عن حاضرها وقد لا تثق أيضًا بأنها المستقبل المنتظر، كذلك تراها جماعات فى تلك المجتمعات القديمة على أنها مجرد وسيلة ظاهرية لاقتناص السلطة دون إيمان حقيقى بأن الأمة هى مصدر السلطات، وأن تداولها يؤدى إلى دوران النخب الحاكمة وهى معطيات ديمقراطية حديثة؛ إذ تبدو لهم المشاركة السياسية بمفهومها الغربى وكأنها مجرد سلم يصعد عليه من يجيد التسلق، فإذا وصل إلى مراكز الحكم قبع فيها، وتمسك بها، فلا هو ينزل ولا غيره يصعد.
رابعًا: إن أخطر المؤثرات فى العملية الديمقراطية هو ذلك المرتبط بالعقيدة الدينية، حيث يلعب الدين دورًا فاعلًا فى توجهات المصوتين ويعتبر معيارًا لدى السواد الأعظم من المسلمين على سبيل المثال لاختيار نائب الشعب وفقًا لمعيار دينى قد لا يتفق مع روح العصر ولا يعبر عن مفهوم الديمقراطية الغربية، ويكون من نتائج ذلك شيوع حالات «التصويت الطائفى» بسبب ضعف الأحزاب السياسية واللجوء إلى المعيار الدينى بديلًا للمعيار السياسى عند الاختيار.
ولقد عانت «مصر» من ذلك فى العقود الأخيرة بتأثير جماعات سياسية وظفت الدين لخدمة أهدافها بينما كنا ذات يوم فى «الفترة الليبرالية» 1922- 1952 شيئًا آخر حتى إن «مكرم عبيد باشا» المسيحى كان يكتسح «ياسين أحمد باشا» نقيب الأشراف فى «مديرية قنا» لأن الناخب كان يعطى صوته لسكرتير عام حزب الأغلبية (الوفد) ولا يعطيه لمرشح من أحزاب الأقلية مسقطًا تمامًا العامل الدينى فى اختياره، وهو أمر تغير بعد ذلك حتى أصبح المسيحى المصرى لا يدخل «البرلمان» فى الغالب إلا معينًا من رئيس الدولة إلى أن جاءت الانتخابات الحالية التى تنصف لأول مرة قطاعات مهضومة الحق فى التمثيل النيابى مثل المرأة والأقباط وذوى الاحتياجات الخاصة والمقيمين فى الخارج.
خامسًا: إننى أبشر بطرح جديد بدأ يظهر فى أدبيات العلوم السياسية، ولو على استحياء، حيث بدأت أبحاث جديدة ودراسات جريئة ترى الديمقراطية الغربية بشكلها الحالى أصبحت لا تفرز بالضرورة من يعبرون عن الرأى العام ويمثلون تيارًا له الغلبة على المسرح السياسى، بل إن الانتقادات تجاه الديمقراطية الغربية قد وصلت إلى حد اعتبارها غير صالحة لتمثيل الشعوب واختيار الأصلح حتى فى أكثر الدول رقيًا وأعلاها مكانة، ويتحدث هؤلاء المجددون عن مفهوم حديث لها يدور حول معنى «الديمقراطية التوافقية» أى تلك التى تستلهم تأثير الرأى العام جنبًا إلى جنب مع إجراءات التصويت الانتخابى بحيث تقدم للناخب مؤشرات قياسية لدرجة توافق جمهور الناس وعموم المواطنين تجاه شخص أو حزب أو جماعة. إنه طرح لم يتبلور بعد، ولكن الحديث عنه تزداد وتيرته فى السنوات الأخيرة بعد الحديث المتكرر عن عيوب الديمقراطية وأوجه القصور فيها.. إن «الديمقراطية التوافقية» تعبر عن روح جديدة فى نظم الحكم على نحو يستحق الدراسة، ويستدعى التأمل.