ذكرت فى الحلقة السابقة («المصرى اليوم» 26 يناير) أن الانطباع الأقوى، الذى خرجت به من متابعة الحرب الإسرائيلية على غزة، «هو أنها كانت حربا خسرها الجميع». وقد تناولت فى تلك الحلقة «وهم الانتصار الإسرائيلى»، واليوم أتناول موقف حماس. وابتداء، فإن القول إن حماس قد هُزمت فى تلك الحرب هو قول يتسم بالتبسيط الشديد، ولكن لا شك فى أن القول إن حماس قد انتصرت ينطوى على خطأ بالغ ومبالغة فجة.
وربما كان الأمر المؤكد أن حماس كانت -منذ فوزها فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية فى أول عام 2006، وحتى معركتها مع إسرائيل فى نهاية عام 2008 -فى ورطة أو مأزق تاريخى، ولا يزال مستمرا –بل متفاقما- حتى تلك اللحظة. ويعنى ذلك أنه من المستحيل أن ندرك جميع أبعاد موقف حماس فى الحرب على غزة، التى استمرت اثنين وعشرين يوما كاملا، بين صباح يوم 27 ديسمبر 2008 وفجر يوم 18 يناير الماضى، منفصلا عن السياق التاريخى لوضع حماس فى غزة منذ يناير 2006.
من هذا المنظور، يكون من الضرورى أن نذكّر ابتداء بأن «حركة المقاومة الإسلامية» أو حماس، التى تمتد جذورها إلى الإخوان المسلمين فى فلسطين ما قبل 1948، والتى أعلنت مولدها عام 1987، ترفض -وفقا لتوجهاتها الفكرية والسياسية- وجود إسرائيل، وتعتقد أن «الجهاد» هو السبيل لتحرير فلسطين وأقصى ما تقبله هو القبول -مؤقتا وعلى سبيل الهدنة- بحدود 1967.
وترى بالتالى أن اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، وما سبقه من اعتراف متبادل وحذف للدعوة إلى القضاء على إسرائيل من ميثاق المنظمة، هى بمثابة أوجه للتفريط فى الحقوق الفلسطينية ينبغى مقاومتها. وبناء على ذلك، كان من المنطقى أن ترفض حماس المشاركة فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية التى أجريت -وفقا لترتيبات أوسلو- فى 1996، ولكنها قبلت بعد ذلك المشاركة فى انتخابات عام 2006 رغم استمرار معارضتها بالطبع لاتفاقيات أوسلو وما يرتبط بها من التزامات.
صعود حماس :
لم يكن فوز حماس فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 أمرا مستغربا، لا فى سياق الحالات المماثلة فى العالمين العربى والإسلامى، ولا فى سياق الوضع الفلسطينى. فحيثما توجد سلطة لا ديمقراطية، يشوبها الفساد وتفتقد الكفاءة -فى مجتمع ذى أغلبية مسلمة- فإن أقرب النتائج المباشرة لذلك هى ظهور القوى الدينية، كأهم البدائل السياسية.
هذا ما حدث فى فلسطين، مثلما حدث -ويحدث- فى إيران والجزائر والسودان وغيرها كثير.
وليس جديدا القول إن فساد السلطة الفلسطينية، وحركة فتح، وانعدام الديمقراطية فيهما، كانا فى مقدمة العوامل التى أسهمت فى نجاح الحركة وحصولها على أصوات ناخبين لا ينتمون بالضرورة إليها، ولكنهم يرفضون فتح. وفوق ذلك، وبالإضافة إلى تأثير الشعور الدينى، لعبت حماس دورا مهما فى المقاومة، وكذلك فى تقديم الخدمات الاجتماعية والمعونات الخيرية، فضلا عما قدمته من انطباع عن انضباطها وبعدها عن الفساد.
ولذلك، فقد كان من المنطقى تماما أن فازت حماس فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية فى يناير 2006، وحصلت على 76 مقعدا من مقاعد المجلس التشريعى الفلسطينى الـ 132، فى انتخابات لم تشك أى جهة فى نزاهتها وحيادها.
ضغوط هائلة :
غير أن هذا كله لم يشفع لحماس، ولم يحظ «الاختيار الديمقراطى» للشعب الفلسطينى بالقبول، لا من جانب فتح، ولا إسرائيل، ولا عديد من القوى الإقليمية والدولية. ومنذ اليوم التالى للانتخابات، لم تنقطع المصادمات بين فتح وحماس، والتى كشف بعضها عن ممارسات بشعة ومشينة من الطرفين معا تجاه بعضهما البعض.
استمرت هذه المصادمات طوال عام 2006، إلى أن عُقد اتفاق مكة بين الطرفين برعاية سعودية فى فبراير 2007، حيث مهد لتشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة إسماعيل هنية فى مارس 2007. غير أن التفاؤل المحدود الذى أوجده تشكيل تلك الحكومة لم يلبث أن تحطم مع تجدد الاشتباكات بين الطرفين، والذى تبعه اتفاق جديد لوقف إطلاق النار بينهما فى مايو 2007 بوساطة مصرية فى تلك المرة، لم يلبث بدوره أن تعرض للانتهاك من الطرفين.
إسرائيل، من ناحيتها، كانت شديدة الوضوح منذ اليوم الأول لنجاح حماس، وهى أنها ترفض التعامل مع حماس، باعتبارها منظمة «إرهابية» لا تقبل بوجود إسرائيل، ولا تقبل عملية السلام معها، بل وشددت حصارها على الأراضى المحتلة، عقب فوز حماس فى الانتخابات، وتشكيل حكومتها فى مارس 2006، واستمرت فى موقفها هذا بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية فى مارس 2007، فضلا عن أنها لم تتوقف أبدا عن استهداف وقتل النشطاء الفلسطينيين، سواء من حماس أو غيرها، الذين لم يتوقفوا -بدورهم- عن إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل.
ولم يخفف من واقع الحصار الذى ضربته إسرائيل حول الأراضى الفلسطينية، حالة التميع فى المواقف الأمريكية (والتى تحدثت عن التعامل مع شخصيات معتدلة!) أو المواقف الأوروبية التى تفاوتت من بلد لآخر.
وعلى أى حال، فإن انقلاب حماس على القيادة الفلسطينية، واستيلاءها بالكامل على السلطة فى غزة فى يونيو 2007، فى ظل حكومة إسماعيل هنية (التى أصبحت الحكومة المقالة!)، وتنازعها الشرعية مع حكومة سلام فياض التى تشكلت فى الضفة (حكومة الطوارئ).. كل ذلك نقل الحصار عليها وعلى غزة خاصة إلى درجات أشد خطورة وقسوة.
وتحولت غزة، بقيادة حماس، إلى سجن كبير: فانتشر الركود، وتوقف 90% من المصانع والورش عن العمل، وتراجع الإنتاج الزراعى بما يزيد على 50%، وتراكمت الخسائر بملايين الدولارات، وتوقف أى تصدير، وانتشرت البطالة، وتدهورت الأوضاع الإنسانية على نحو مخيف، خاصة إزاء الأطفال والنساء والشيوخ. وبعبارة أخرى، فقد تعرضت غزة «لعقاب جماعى» خانق لا شرعى، لم تفلح البيانات الدولية، ولا محاولات الناشطين المناصرين لغزة فى التخفيف من آثاره.
وفى حين شهدت بداية عام 2008 ردة فعل عنيفة وواسعة من حماس إزاء الحصار فى شكل اقتحام آلاف (أو عشرات الآلاف!) من أبناء غزة للحدود مع مصر، بكل ما أثاره ذلك من تداعيات معروفة، فإن نهاية العام نفسه شهدت رد فعل آخر أكثر خطورة وتهورا، وهو رفض حماس فى ديسمبر 2008 تمديد الهدنة مع إسرائيل، التى كانت قد عقدت بوساطة مصرية فى يونيو من العام نفسه! وهو الرفض الذى أعطى إسرائيل المبرر لبدء حربها الوحشية على غزة صباح يوم 27 ديسمبر 2008.
رد الفعل !
لا يماثل قسوة الضغوط التى تعرضت لها حماس (بل والشعب الفلسطينى كله، خاصة فى غزة) سوى قصر النظر، بل وربما الحماقة التى اتسمت بها ردود أفعال حماس طوال الفترة بين بداية عام 2006 (فوزها فى الانتخابات) ونهاية عام 2008 (حرب إسرائيل على غزة).
فأولا، وأيا كانت المبررات، فلا شك فى أن انقلاب حماس على القيادة الفلسطينية، وانفرادها بالسلطة فى قطاع غزة، مثلا ضربة قاصمة للقضية الفلسطينية فى مرحلتها الراهنة، وهو تقسيم سياسى وأيديولوجى، مثلما هو تقسيم جغرافى، يراكم كل يوم مرارات وحزازات، ويكرس على أرض الواقع أوضاعا وترتيبات يصعب التخلص منها.
حقا إن كلاما كثيرا قيل وأشيع، هنا وهناك، بأن حماس أحبطت مخططات من السلطة الفلسطينية للإطاحة بها، وأن ما فعلته كان بمثابة ضربة استباقية لانقلاب كانت تعده فتح؟!! ولكن تظل الحقيقة المرة هى أن شرخا فلسطينيا عميقا حدث، وأن هذا كله يعود بالقضية الفلسطينية سنين عديدة إلى الوراء، ويجمد أى حديث جاد عن الدولة الفلسطينية، وتقسيمها -بل وذبحها- قبل أن تولد!
وإعفاء لكل الأطراف من المسؤولية السياسية والأدبية لإنشاء تلك الدولة. فمن المنطقى أن تتوقف كل الجهود الجادة، إلى أن يحل الفلسطينيون مشاكلهم ويسووا خلافاتهم.
من ناحية ثانية، فإن حماس -باستيلائها على غزة، وانفرادها بحكمها- بدا وكأنها تقدم نموذجا لحكم إسلامى (أو لإمارة إسلامية، كما يحلو للبعض أن يسميها!) قام على أساس «انقلابى» بالرغم من وصولها أصلا إلى السلطة عن طريق «ديمقراطى».
ومع أنه لم تتح لها فرصة كافية فى الواقع لبناء نموذجها الإسلامى، إلا أن عديدا من الإشارات والإرهاصات أثار المخاوف المبكرة من سياسات وتشريعات وممارسات (توصف بأنها إسلامية!) تتنافى مع مقتضيات العصر ومع حقوق الإنسان.
وفضلا عن ذلك، فإن سلوك سلطات حماس، عقب وقف إطلاق النار، والبيانات التى تتحدث عن انتصار حماس، وعن أن ما قتلته من الإسرائيليين يزيد على ما قتله الأخيرون من كوادرها!، واعتبار كل من ينكر ذلك متواطئا مع العدو، أو خائنا ويعرض للاعتقال، بل والقتل الفورى (انظر تقرير مكرم محمد أحمد من غزة -الأهرام 25 يناير).. كلها ممارسات غير مطمئنة، وتقدم نموذجا يستدعى الحذر منه، والقلق إزاءه.
غير أن جوهر مأزق حماس، وكما تبدى بقوة منذ بداية 2006 حتى اليوم، هو عجزها الفاضح عن التمييز بين الثورة والسلطة، بين مهام المقاومة ومسؤوليات الدولة! وقبل ذلك تناقضها المبدئى. فقد شاركت حماس فى الانتخابات الفلسطينية عام 2006، مع أن هذه الانتخابات قامت -كما سبقت الإشارة- على أساس اتفاقيات أوسلو التى ترفضها حماس، وترفض بالتالى ما ترتب عليها من مؤسسات وتشريعات.
وكان الموقف الأكثر مبدئية، والأكثر اتساقا، هو إما أن تقبل حماس -أولا- باتفاقيات أوسلو، قبل أن تشارك فى الانتخابات، أو أن تظل رافضة لها، ومتمسكة بموقفها الرافض، وتظل حركة مقاومة لها جماهيرها وشرعيتها الوطنية والثورية.
غير أن ما هو أكثر أهمية وخطورة من ذلك، أنه بعد أن وصلت حماس للحكم -عقب فوزها الكبير فى انتخابات عام 2006- عجزت تماما عن إدراك مقتضيات وضرورات التحول من موقع المقاومة إلى موقع الحكم، أو من موقع الثورة إلى موقع السلطة. المقاومة والثورة لهما منطقهما، والسلطة والحكم لهما منطق آخر. المقاومة والثورة التزامهما الأساسى هو بتحقيق هدفهما فى تحرير الأرض وإزالة السلطة الغاشمة للعدو، أما السلطة والحكم فهما يلتزمان بالحفاظ على الأرض والشعب وتحقيق أمنه ورخائه.
لم تدرك حماس (خاصة بعد أن انفردت بالحكم فى غزة) أن حكم مليون ونصف مليون مواطن فلسطينى يفرض عليها مسؤولية الحفاظ على حياتهم، وأرضهم، ومؤسساتهم، وممتلكاتهم، وأن تولى سلطة الحكم يفرض عليها حلولا وسطا ومواءمات وترتيبات، حتى ولو كانت ترفضها أيام أن كانت -فقط- حركة للمقاومة.
وللأسف، فإن قيادات وكوادر حماس حاولت -عقب نجاحها فى 2006- تقديم بعض التنازلات الشكلية والحيل اللفظية، والالتفاف حول المطالب المحددة، وتوهموا أن بإمكانهم الجمع بين الحسنيين: شعارات وجماهيرية المقاومة، وسياسات وأبهة السلطة. ولكن ذلك كان مستحيلا، خاصة مع تربص فتح التى حاولت حماس أن تلصق بها كل «سلبيات التسوية»، وأن تتقاسم معها كل ثمار «السلطة»؟!
وأخيرا، وتحت الضغط الخانق للحصار، تصرف الحمساويون كحركة مقاومة، وليس كسلطة مسؤولة عن شعب وأرواح وممتلكات.
وفى الواقع، فإننى لم أجد حتى الآن إجابة شافية عن السؤال البديهى: ماذا كانت حسابات قادة حماس عندما اتخذوا قرارهم بإنهاء الهدنة وإطلاق الصواريخ على إسرائيل، بالرغم من التحذيرات العديدة والجادة من كل الأطراف، وفى مقدمتها مصر؟ هل أساءوا تقدير رد الفعل الإسرائيلى؟ أم أنهم كانوا يحسنون الظن بقيادات إسرائيل وميولهم الإنسانية؟!! أم أن هناك عوامل وقوى أخرى لعبت فى الظلام؟ هذا هو السؤال.