«الرحيق المختوم».. والدم المراق

أحمد الدريني الإثنين 16-11-2015 20:59

لا يمكن إغفال كتاب «الرحيق المختوم» من معادلة قراءة سلوك التيارات الإسلامية على اختلاف مناهجها ومراميها، فهو واحد من الكتب المعتمدة والمفضلة لدى أطياف كثيرة لتعليم الأتباع وتلقينهم الخطوط العريضة للسيرة النبوية المشرفة.
وهو كتابٌ غريب ومدهش من نواح مختلفة.
لدرجة أنك من الممكن أن تلحظ تأثير فلسفته ومنهجه في الخطاب العام للحركات الإسلامية من أول الإخوان بميوعتهم ورخاوتهم ومرواغتهم المعهودة (مرحلة ما قبل تجربة الحكم في 2012)، وصولًا إلى «تنظيم الدولة»، أحد أحط المحطات التي تصادفها الإنسانية في رحلتها.
بل لقد حظي هو ومؤلفه الهندي الشيخ «صفي الرحمن المباركفوري» بثناء كبار مشايخ المسلمين من مكة إلى الدار البيضاء، من أساتذة الجامعات ومن كبار قامات التيار السلفي، من الألباني لمحمد حسان، مرورًا بقيادات حركية في تنظيمات مختلفة.
(2)
«الرحيق المختوم» هو أحد أكثر كتب السيرة النبوية إمتاعًا على الإطلاق، سرد شيق، وتناول ممشوق، وكتابة تكشف مزاجًا أدبيا وحسًا سينمائيًا مميزًا لكاتبه!
يقف الكتاب الذي حاز انتشارًا واسعًا، على المحطات المفصلية في تاريخ نشأة الإسلام، تئن صفحاته بين يديك من آلام تعذيب أبي جهل للمسلمين الضعفاء، وترى بعين قلبك كفار قريش في دار الندوة يتآمرون على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتنزف صفحاته بدم حمزة بن عبدالمطلب، وترى على هوامشه رايات النصر مرفوعةً في بدر.
كل هذه الدراما مخدومة بلغة ملحمية مؤثرة فيها، مرارةٌ ممزوجة بفرحة، وأملٌ ممزوج بكبرياء.
حسنًا ما الأزمة؟ أو ما الميزة التي تجعل هذا الكتاب واحدًا من الكتب المعتمدة لتنشئة الإرهابي في بداياته، ولجرجرة المسلم العادي إلى شباك التطرف؟
فالسيرة في مؤاداها النهائي وفقا لما يرسخ بوجدانك، على النحو الذي تناولها به المؤلف «صفي الرحمن المباركفوري»، هي مغامرة ناجحة لقائد عظيم، اتبع تكتيكات مختلفة واستراتيجيات ذكية، إلى أن طاوعته الدنيا هو وأصحابه جيدي التنظيم، المخلصين لمعتقدهم، فانتصروا على العرب وفرضوا عليهم ما يؤمنون به!
فلغة الكتاب أليق ما تكون توثيقا لحياة قائد عسكري مخضرم، ورجل إداري فذ، وزعيم سياسي ملهم يقود حفنة من القوات الخاصة ذات الطابع العقائدي الصلب لتحقيق أهداف الجماعة الكبرى، في مواجهة «تنظيم» الكفار المسلح بقيادات فكرية واقتصادية وعسكرية نافذة القوة.
هي لغة تأريخية متحمسة لا تفرق كثيرًا عن تيه وفخر كتابات اليسار بتجارب جيفارا ورفاقه في أمريكا اللاتينية من أجل الفقراء والكادحين في مواجهة الرأسمالية العالمية.
ربما ليست اللغة الأفضل مطلقا للحديث عن مقام النبوة السامي ووحي السماء الجليل وعظيم أمر التنزل الإلهي بخاتم الرسالات.
فالتركيز على «الخطط» و«الترتيب» و«التدبير»، من حيث أراد المؤلف أن يجعله مرادفًا للاجتهاد في أمور الدنيا وأخذا بأسبابها، أخذ يتزحزح ملليمترات في كل مشهد وموضع من السيرة، إلى أن اجتمعت الملليمترات فأضحت بونا شاسعا، وبحيث أضحى الدين في نهاية المطاف، قصة نجاح لا تفرق كثيرًا عن قصص نجاح الشركات الكبرى التي كانت يومًا ما صغيرة ضعيفة مضطهدة على وشك الإفلاس.
وفي ثنايا هذا التناول، وانطلاقا من هذا المنظور الذي لم تلجمه –برأيي- حساسية وقداسة الخوض تأريخًا وتناولًا لحياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، تأكد معنى أن الإسلام يحتاج دومًا إلى كفاح وجهاد، لأن هناك في كل عصر أبوجهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، ولا سبيل إلا الترتيب والتنظيم والتخطيط والهجوم لدحر هؤلاء!
فحالة الإسقاط التاريخية التي تقع في فخها التنظيمات الإسلامية المختلفة التي تسعى لموافقة أفعالها لوقائع السيرة المشرفة، وتجتهد في تصوير أعدائها كما لو كان كل منهم انبعاثا جديدا لكفار دار الندوة في قلب مكة، وليدة مثل هذا التصور عن الإسلام كقصة كفاح عسكري انتصرت فيه الأقلية المنظمة المسلحة.
وهو الأمر الذي يتفق في روحه وألفاظه مع تخيلات الإخوان عن دولة النبوة فالخلافة التي أذلت الفرس والروم بعدما أطاحت بقبائل العرب تحت سنابك الخيول، ويسري معناه إلى صلب فلسفة بيانات «تنظيم الدولة» عن الوصول إلى عقر دار الكفر في باريس و«أزقتها النتنة» على حد ما جاء في بيان ما بعد أعمال باريس الإرهابية.
(3)
ليس القصد من هذا كله إدانة الكتاب واسع الانتشار وذائع الصيت، فهو مؤلفٌ رصين وناجح ويعكس جهدًا عظيما لمؤلفه في مجاله العلمي، وأفضل بصورة شخصية معاودة الإطلاع عليه من حين لآخر بشغف لايقل في أي مرة عن سابقتها.
لكن خطر الحيد عن قصد الدين ومرماه وارد طوال الوقت، بتفاوت الأفهام والمقاصد والأشخاص والأوقات.
أما اليوم وقد بات المسلمون في وضع لا يحسدون عليه، فإن إعادة النظر فيما تسرب إلى النفوس والعقول على مدار العقود الفائتة والتي تحكمت فيها التيارات الإسلامية المختلفة في قلوب الجماهير، هو أمس ما نحتاج إليه.
فالخطاب الديني الرسمي ظل لصيقا بالسلطة بليدًا مثلها لدرجة أفقدته مصداقيته، وإلى حد أفسح المجال لمثل هذه التصورات المريضة التي أظهرت الإسلام الذي قاله نبيه صوات الله عليه (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) على أنه مجموعة من النصوص والضوابط التي تقنن القتل والسبي والجلد والرجم والتنكيل.
ومالم يتم اجتثاث فلسفة أن العالم فسطاطين، فسطاطنا وفسطاطهم، وأننا طوال الوقت بحاجة لقتالهم لأنهم يكرهوننا، ولأننا لابد أن نتحقق وننتصر عليهم حتى نحس بذواتنا وحتى نعيد دراما المسلمين الأوائل في مواجهة قريش، فإنا سنظل مفارخ للدواعش، لا يكف هدير انتاجها السخي.