نساء من طنطا

لمياء المقدم الأحد 15-11-2015 21:19

بقيت يومين متتاليين في الفندق لا أغادره، معتقدة أن لا شيء في المدينة يستحق الخروج، أو هكذا أخبروني. في اليوم الثالث خرجت، بعد أن وضعت على رأسي غطاء ولبست فوق بنطلوني تنورة طويلة الى الكعبين، كنت متوجهة الى مقام السيد البدوي، وكان منظري مضحكا، الجميع ينظر الي مستغربا شكلي الذي كان يجمع بين كل المتضادات.

طنطا، المدينة التي استقبلت مؤخرا ٣٥ شاعرا على أرضها لاحياء أول دورة من مهرجان طنطا العالمي للشعر، تركت في نفسي شيئا مختلفا عن كل المدن التي زرتها سابقا. عادية جدا، وربما لا شيئ فيها ليستوقفك. لكن المسافة التي قطعتها من الفندق الى مقام السيد البدوي ذهابا وايابا ( لا تزيد عن ٢٠٠ متر) كانت كافية لألتقي ثلاث نساء من طنطا، وأحدثهم فيحدثونني:
‫-‬ إمرأة الجرجير: أم محمد التي تبيع الجرجير والعيش المصري، أمام مسجد السيد البدوي سألتني: من أين، قلت من تونس. قالت أجدع ناس، وناولتني قطعة خبز ملفوفة على الجرجير. أخبرتها أنني لم أذق جرجيرا في حياتي من قبل فضحكت وقالت: لا، ما ينفعش. لازم يكون عندك جرجير في البيت، أمال عايشة أزاي!
أعرف حكايات الجرجير من الاصدقاء، ووصلتني الأساطير التي تمتدح قدرته على تقوية الرغبات الجنسية، لهذا فهمت ما قصدته وابتسمت لها، جلست الى جنبها وأكلت الجرجير والعيش المصري، راقبتها تنظف أوراقه بالمنديل الذي في يدها، منحتني الوريقات متشابكة ومذيلة بعروق رقيقة بيضاء، قربتها من فمي فقالت : اقطعي العروق، هي لا تؤكل. عروق الجرجير لا تؤكل: هكذا علمتني طنطا اذن. بعد أن ذقته قلت: لذيذ، به لذعة خفيفة كتلك التي في اللفت أو الفجل. فابتسمت بلؤم…
‫-‬ إمرأة البلح: كانت تفترش الأرض وتضع أمامها صندوقا صغيرا به بلح من الحجم الكبير، أصفر اللون، لم يسبق أن رأيته. قبلها بيوم واحد جلبوا لنا في الفندق بلحا مشابها له في الحجم، أحمر اللون، حلو المذاق. أكلت منه كثيرا، وانا استغرب البلح العملاق ولونه الغريب, فالبلح كما عرفته في تونس وبلدان أخرى لا يتجاوز نصف حجم هذا البلح، ولونه واحد، يبدأ أصفر لينتهي بنيا أو عسلي اللون. اما هذا البلح الأحمر الداكن فغريب ومغر.
جلست أمام بائعة البلح الأصفر، واستأذنتها أن اذوق واحدة قبل أن أشتري، لمعرفة ما اذا كان مذاقه حلوا كالبلح الأحمر أم لا، مسكت حبة واحدة في يدي، فنهرتني وهي تنتر يدي قائلة: اخترت أكبر واحدة! ضحكت وأطلقتها من يدي. قلت: حسنا، لا أريد بلحا، يبدو انك لست راضية. غضبت وقالت: خذي واحدة أصغر. ترددت، قلت: لا داعي، لا أظن انه حلو، لكنها دست حبة صغيرة في يدي، أخذتها ووواصلت سيري الى الفندق. لم أذقها، فقد ترسخ لدي اعتقاد انها ستفسد طعم البلح الاحمر الفريد والمميز والمدهش الذي ذقته في طنطا قبل يوم واحد من هذه الحادثة. تركت الحبة الصفراء على جانب حوض المياه في غرفة الحمام.
امرأة الرمان، المرأة الوحيدة التي تملك عربة تبيع عليها بضاعتها، لم تكن تفترش الأرض، كانت العربة مقسمة بينها وبين البضاعة بالتساوي، كومة الرمان في مقدمة العربة وهي في مؤخرتها، تجلس عالية مع بضاعتها، كما لو أنها جزء منها. لا أعرف كيف صعدت، ولامن سينزلها أخر النهار من فوق العربة الخشبية، امرأة كبيرة في السن تتجاوز السبعين. استوقفني الرمان طبعا، فهذه الفاكهة هي من قتل أمي. أحبتها لدرجة قررت ان تزرع شجرة رمان في البيت، وداهمتها الذبحة الصدرية وهي تسقي الشجرة. قالت: خذي الرمان، قلت لا، أريد فقط أن التقط لك صورة، تربعت وسوت جلستها، ثم نظرت الى جار لها على بعد عدة أمتار وقالت ضاحكة: تريد صورة.
اخذت الصورة من عدة جوانب، الرمان وهو في وسط الصورة، وهو في يمينها، في شمالها، في مقدمة العربة ومؤخرتها، بائعته في وسطه، وأحيانا كانت تبدو فوقه، أو خلفه. المهم صور كلها رمان يكاد ينفجر من الانتفاخ، قلوبه محشوة بالدم الأحمر القاني، الصافي الجاري بلا توقف، او تخثر، او عقد…
كانت هذه جولتي الأولى في طنطا،
في اليوم التالي خرجت مجددا، بلا غطاء أو تنورة، أو كاميرا تصوير.