«مفيش حد صالح»!

د. ياسر عبد العزيز السبت 14-11-2015 21:23

مر المصريون بأوقات عصيبة على مدى تاريخهم الملىء بالتحديات والمحن، وقد نالت منهم تلك المحن أحياناً كثيرة، وأثرت فى سلوكهم، وغيرت طبائعهم، وعكرت أمزجتهم.

نحن نمر بأوقات عصيبة الآن، وهى أوقات ألقت بظلال قاتمة على سلوكياتنا وتصوراتنا عما يحيط بنا، وقد أمكننى رصد ستة تغيرات جوهرية طرأت على المجتمع المصرى، أو تفاقم أثرها، أو زادت حدتها، فى الآونة الأخيرة.

أولاً: نشرت كاتبة وحقوقية محترمة مقالاً فى صحيفة نافذة، أرادت من خلاله أن تدعو إلى تماسك الجبهة الداخلية، وانتهاج سبل الإصلاح، وفى الوقت ذاته أرادت أن تدعو النظام إلى احترام حقوق الإنسان، والإفراج عن «الشباب المظلومين المحبوسين».

لكن تلك الكاتبة اضطرت أن تستهل مقالها بالعبارة التالية: «قبل أن أبدأ لابد أن أقسم بالله العظيم أننى أحب بلدى ولا أتردد فى الموت دفاعاً عنه».

رأت هذه الكاتبة أنه لن يكون بوسعها أن تُطالب النظام باحترام حقوق الإنسان إلا بعد أن تدفع اتهاماً جاهزاً لها بالعمالة والخيانة، ولم تجد وسيلة لكى تفعل ذلك سوى أن تبدأ بالقسم أنها «تحب البلد».

التغير الأول الذى ضرب حياة المصريين يتصل بهيمنة حالة الفرز الحادة «وطنى/ عميل»، وهى حالة لا تضرب سوى المجتمعات المأزومة والمهووسة.

إنها حالة «مكارثية» بامتياز، لا يمكن أن تخدم المستقبل، أو حتى تضمن الوصول إليه.

ثانياً: السؤال الذى يتردد دائماً عند تحليل انعكاسات السياسات الإقليمية والدولية على الحالة الداخلية يخيرك بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: «هل ما حدث مؤامرة، أم ليس مؤامرة؟».

لا يمكن إثبات المؤامرة أو نفيها بسهولة فى وقت حدوثها، ولا يمكن أن يكون المطلوب من كل مصرى أن يمتلك تصوراً محدداً عن طبيعة العلاقات المصرية- الدولية، بحيث يقود مباشرة إلى «نظرية المؤامرة»، أو يعلق كل مشاكلنا على «فشلنا الداخلى»، دون أى مساحة لتحليل الأحداث والقرارات والسياسات نفسها، وشرح طبيعتها، وترك التقييم النهائى لوقت تظهر فيه الأدلة والبراهين الكافية لإصدار الحكم القاطع.

ثالثاً: المواقف المسبقة والمصلحة الشخصية المباشرة تحكم مواقفنا وإجاباتنا عن الأسئلة وتفسيراتنا للظواهر.

لمعظم المصريين موقف أيديولوجى، أو انتماء سياسى، أو ميل معين لفريق أو اتجاه أو زعيم، وهؤلاء لا يحللون الأحداث سعياً إلى معرفة أسبابها، ولا يقيمون التطورات على أسس موضوعية غالباً، لكنهم يذهبون سريعاً إلى الرأى والموقف الذى يخدم رؤيتهم السابقة أو يعزز مصلحتهم.

رابعاً: لم تعد هناك حدود لتوقع السوء فى الآخرين، إذ يبدو أن المجتمع قد قرر إشاعة اليأس وعدم اليقين وإساءة الظن بكل أفراده.

لم يعد أحد يستهول سقوط أحد، وربما وصلنا إلى ما هو أنكى من ذلك، إذ يبدو أن هناك رغبة دائمة فى تأكيد أن «الجميع ساقط».

لاحظ أنه من العبارات الأكثر تردداً فى الثقافة الشعبية راهناً عبارتى: «مفيش حد صالح.. كله بتاع مصالح»، و«مفيش صاحب يتصاحب».

خامساً: يشير علماء الاجتماع إلى مفهوم «الضبط الاجتماعى»، باعتباره إحدى وسائل تحقيق الاستقرار وضمان تماسك المجتمعات وامتثالها لاستحقاقات العيش المشترك.

يتحقق الضبط الاجتماعى عادة بمجموعتين من الوسائل، إحداهما هى الوسائل الرسمية، التى تتمثل فى القانون وسلطة الدولة، وثانيتهما الوسائل غير الرسمية، التى تتمثل فى القيم الحيوية المتفق عليها، والرموز التى تحظى بالتقدير، والسلوكيات محل الاعتبار.

لم تعد هناك ثقة عامة فى القانون بشكل يكفى للامتثال، وسلطة الجبر الرسمية متهمة بالانتقائية، والقيم الحيوية تتعرض كل يوم للتشكيك والتنازع والاستهانة، والرموز مستباحة.

سادساً: لا تنتهى معظم النقاشات بمقترح، أو هدف متفق عليه، أو نزعة للعمل، أو رؤية متفائلة، إذ نختتم أغلب نقاشاتنا وفعالياتنا بعبارات من نوع «ربنا يستر»، أو «ربنا يعديها على خير».

تشير تلك السلوكيات إلى حالة من التشاؤم واللامبالاة وتزعزع اليقين، وقد تُفاقم المخاطر التى تحدق بنا، وتضعف قدرتنا على مواجهة التحديات.