عندما خرجنا جميعا ولم نعد

نهى عاطف الجمعة 13-11-2015 21:11


يتخرج الشاب، يعمل الشاب، أو يعمل ويتخرج الشاب في آن واحد. ثم تضيق السبل، يلملم الشاب شهادة عليا، وبعض سنوات عمل، وكومًا من نجاحات صغيرة، ويبحث عن سبيل جديد. يبدو السفر خارج البلاد سبيلا أوحد، لكن لم تعد دول الخليج سوق استقبال عمالة كما كانت منذ عقود، أما دول الجنوب فلا يختلف فيها الحال كثيرًا عما هو عليه في مصر، فضلا عن عدم إجادة كثيرين لغاتها. الحل يكون في الغرب، وبات الطريق الشرعي للغرب هو الدراسة فيه. يبحث الشاب عن منحة دراسية في بلد شمالي، يستعين في التقديم لها بسابقيه ممن تلقوا المنحات، ثم يساعد آخرين بعده في نيل ذات المنحة. نتكاتف جميعا، يشد المصري أزر أخيه على طريقة «إيد واحدة»، ننجح في الخروج وفيما بعد الخروج، نغادر نحن ومن بعدنا ومن بعدهم.. لاحظ أنني أستخدم فعل المضارع، وغرضه هنا الوصف وإفادته الحال والاستقبال، فما سبق أمور واقعية. أما ما يلي فهو استغراق في الواقعية!.
تخلو البلاد من مواليد العقد من أوائل الثمانينيات حتى أوائل التسعينيات، لكنه لا يبدو حدثا لافتا. لا أظن أن يقف الخلق جميعا ينظرون، ولا أن تتحدث مصر عن نفسها، لعلها تكتفي بقول «سلاما شباب النيل»، وتلّوح بإحدى يديها، وربما تزيد «ابقوا طمنوني لما توصلوا!»
الخارجون من البلاد يرفعون اسم مصر بكل ما تجرعوه فيها من حيوية وعزم وهمة، ليبلغوا حالة بديعة من الامتزاج الحضاري مع الآخر. على سبيل المثال، تنشر «جارديان» تحقيقًا مطولًا عن مشروب حمص الشام الذي أدخلته الجالية المصرية بريطانيا، وأخذ في الانتشار عبر أكشاك ومحال صغيرة تقدمه حارا وبالطماطم أو بدون. يبرز التقرير فوائد الحمص الغذائية ويقارنه بالشاي الأحمر، وتتساءل الصحيفة: «هل ينبغي أن نقدم لأطفالنا في مدارسهم مشروبا دافئا وطعاما مغذيا ومشبعا؟ ليكن حمص الشام إذا». أما عصير القصب فمن نصيبه تقرير أنتجه التليفزيون الألماني وعرض من خلاله الفكرة الرائجة باعتباره بديلا صحيا عن البيرة الوطنية الشهيرة، فالقصب سكري وبارد ومنعش مثلها، وحتى هؤلاء المصريين يقدمونه في أكواب كبيرة تشبه تلك المخصصة للمشروب الأوروبي الشهير، غير أنه آمن للمرضى غير المسموح لهم بالكحول وكبار السن ولا ضرر من الإكثار منه. لكن النجاح ليس سهلا، بعض الحركات اليمينية تعارض الغزو الشرقي الحضاري المتمثل في عصير القصب.
أسواق الملابس تغدو في أزمة بسبب غياب الفئة المسافرة، السوق تخلو من زبائن للبضاعة الحاضرة، ولا مجال للاستيراد، لأن غالبية الطلب من فئة الآباء أوائل عمر الخمسينيات. تتراجع بشدة أسعار الموجود، (أوكازيون) تاريخي يعرض على الآباء والأمهات ما كان مستهدفًا به أبناءهم الشباب. أجل، سوف يتحول مظهر رب الأسرة من الملبس الكلاسيكي إلى المشجر والمنقوش، يرتدي ذلك دون حرج لأنه صار عاديا بعد مسارعة كثيرين- مثله- لاقتناص فرصة شراء ملابس جديدة بسعر زهيد. انظر إلى الشعب بملابسه الزاهية، الخبر السعيد أن الإقبال على شراء الملابس الجاهزة يصاحبه إقبال على ورش الخياطة، فيرسل أحدهم بنطاله الأحمر القاتم إلى (الترزي) لتوسعته كثيرا. لكن الأمر سيكون أسهل على النساء، لأن ملابس الفتيات أغلبها مطاط، بالتالي يستوعب كافة المقاسات.
تستمر القاهرة مدينة لا تستيقظ مبكرا، لكنها تنام مبكرا مقارنة بذي قبل، فالشعب إما صغارا متعبة أجسادهم من التنقل بين أنحاء المدينة لحضور الدروس الخاصة، أو كبارا يلوذون بالنوم من إرهاق العمل. يتراجع الإقبال على المقاهي العصرية (الكافيهات)، يصير زبائنها هم فئة المراهقين، تضطر لخفض أسعارها لاستقبال المزيد منهم. حتى الأكشاك الصغيرة، لا تجد زبائن بما يكفي لشراء ما لديها من شرائح بطاطس و(كرواسون)، باستثناء الأكشاك بالقرب من المدارس. وتتحول محال الدليفري من توصيل (الكريب) والمناقيش إلى الأكل الدسم والوجبات المصرية التقليدية.
يلملم باعة الكتب أكوام الروايات من أرفف «الأكثر مبيعا» مثل (بجعة زرقاء في بحيرة بيضاء) و(امرأة لا تأكل الجبن)، ليعرضوا بدلا منها (جد لحفيد واحد) و(كنت شابا في السبعينيات)، إضافة لكتب إعادة قراءة التاريخ وكشف المفاجآت في عالم السياسة. قنوات إذاعة (الكليبات) لا تجد كثيرا من المشاهدين، كان متوقعا تحولها إلى الكلاسيكيات.. هل انزعج البعض من دعاية إحدى شركات المحمول التي ظهر فيها نجوم الغناء في التسعينيات مستبعدون من إحدى خدمات هذه الشركة؟ لا عليكم، ينعكس الموقف بكل سلاسة، ويعود هؤلاء النجوم لتألقهم، لتخصص بعض القنوات ساعة لأعمال حميد الشاعري يوميا، وتذيع إحداها حصريا حفلات مدحت صالح كل مساء. أما منتجو الدراما، فلا جديد عن المخدرات أو الزواج السري يقدمونه في المسلسلات، أعتقد أن جزءا سادسا لـ(ليالي الحلمية) سوف يتم إنتاجه!
يتراجع عدد حفلات الزواج، لكن العاملين في سوق الترفيه يجتهدون لتفادي الركود، مثلا يبتكر أصحاب (الدي جيه) حفلات «رجوع»، وهو نوع من الاحتفال بالشاب أثناء زيارته لمصر ينتشر في المناطق الشعبية. في حفلات الرجوع يرتدي الشاب الزائر بدلة سوداء لامعة، ويتأنق أفراد أسرته، تنتشر الكراسي والمناضد في الشارع، وأعمدة يغطيها (الدانتيل) الوردي ودخان وليزر، كله ينطلق بتريب محسوب بعد القرآن الكريم وأسماء الله الحسني. بعد ذلك يتداخل صوت إسماعيل البلبيسي مع المشهد في شجن (أنا م البداية يا غربة باتحمل...) وقبل أن تكتمل يصرخ حكيم ألمًا (في ليل الغربة يامّايا). يندمج الحضور في حالة شعورية عامة، لينتقل بهم (الدي جيه) إلى ذروة الاحتفال، فيدعو الشاب الراجع للرقص، فتدور أغنية (شايلك في قلبي وفاكرك يا مصر).
في مثل هذا الحال لا يسيل ولا ترتسم ضحكة، فقط يرتفع الحاجبان- قليلا- من الدهشة، وربما يصاحب ذلك بعض التمتمات: «لماذا يؤثر الغياب ولا يؤثر الوجود؟!».