غزو العراق وغزوة شرم الشيخ!

أحمد الدريني الثلاثاء 10-11-2015 21:46

«لقد تبين كذب الادعاء بأنني أو أي شخص آخر قد تعمد الكذب على مجلس العموم أو أقدم على تزوير معلومات بخصوص أسلحة الدمار الشامل.. إنني أطالب ببساطة كل هؤلاء الذين خلقوا تلك الكذبة وكرروها على مدى شهور بأن يتراجعوا عنها ويسحبوها بشكل علني وكامل».

هكذا صرح رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير بكل إباء وشمم في نهاية يناير 2004، أثناء الضجة التي أثيرت على خلفية قتل/ انتحار خبير الأسلحة بوزارة الدفاع البريطانية دافيد كيلي.

لكن الطريف كل الطرافة، أن بلير بعد هذه التصريحات، بأحد عشر عامًا، وتحديدا في نهاية أكتوبر 2015، سيخرج على محطة سي إن إن الأمريكية ليعتذر عن غزو العراق متعللًا بأن المعلومات الاستخباراتية التي تلقاها لم تكن صحيحة!

بدأت القصة حين أفضى الدكتور كيلي وهو خبير أسلحة بيولوجية بوزارة الدفاع، لمراسل بي بي سي آندرو جليجان، بأن مزاعم امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ربما ليست دقيقة تمامًا.

واعتبر كيلي أن ما ردده توني بلير رئيس الوزراء آنذاك من أن العراق بمقدوره استخدام أسلحة الدمار الشامل خلال 45 دقيقة من صدور الأمر بتفعيلها، شيء غير حقيقي على الإطلاق.

اندلعت ثورة شكوك عنيفة في أرجاء بريطانيا بعدما ألقى جليجان ما بحوزته من معلومات إلى جعبة الجمهور، فثار توني بلير ولم يهدأ ومعه رجله المفضل ومقاوله الإعلامي الأبرز «أليستر كامبل».

انكشف أن مصدر الصحفي جليجان في الحصول على معلومات تفيد بكذب رئيس الوزراء هو مصدر رفيع داخل وزارة الدفاع، وتم تحديد أنه الدكتور كيلي.

خضع كيلي لاستجوابات قاسية، نالته فيها الشتائم والتوبيخات، إلى أن وجد الرجل منحورًا أو منتحرًا وسط الحقول الخضراء بعد أيام من جلسات الاستنطاق المهينة له ولتاريخه وشخصه.

تطورت الأمور، وبدا أن «فرية الـ45 دقيقة» من الأكاذيب المحبوكة لتوني بلير، خاصة مع شكوك قتل الدكتور كيلي، وانتظر الجميع تحقيقات لجنة لورد «هاتُن» بفارغ الصبر.

أديرت في هذه الأثناء حملة شعواء في الإعلام البريطاني لامتصاص صدمة مقتل/انتحار الدكتور كيلي، وتولى التخطيط لها أليستر كامبل مدير مكتب الاتصالات لحكومة بلير، ليخرج تقرير لورد «هاتُن» في نهاية المطاف مفيدًا بأن كيلي انتحر وأن جليجان أخطأ حين بث مثل هذه المعلومات وضلل الجمهور عبر أكثر من طريقة، ليستقيل على أثرها أندرو جليجان من بي بي سي، ومعه مدير مجلس الأمناء جريج دايك، في ضربة ولا أروع من ألعاب كامبل الشيطانية.

بفضل كامبل، توافقت مزاعم المخابرات الأمريكية مع نظيرتها البريطانية بخصوص ملف العراق وأوهام امتلاك صدام لأسلحة دمار شامل، فقد عكف الرجل على صياغة الملف المشترك بالتعاون مع جون سكارليت، رئيس لجنة الاستخبارات المشتركة.

وبفضل حبك كامبل لمخططه، وبفضل قدرته الفذة على دفع الرأي العام ،إلى مسار بعينه، بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة سيلقي كولين باول وزير الخارجية الأمريكية حينئذ خطابًا قويًا أمام مجلس الأمن بخصوص أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين، استنادًا إلى ملف سبتمبر الذي أعده رجل الإعلام القوي «كامبل».

سيتم تدريس هذا الخطاب فيما بعد كمادة إطلاع ضرورية لطلاب الدراسات العليا في أقسام الإعلام السياسي في جامعات بريطانيا وأمريكا، كنموذج مثالي لكيف يمكن أن تكذب على نحو محبوك ومؤثر، وكيف يمكن أن تسرد الدلائل تباعًا في محفل دولي لأجل كسب الرأي العام العالمي!

ورغم استقالة كامبل في أعقاب الزوابع التي أثارها مقتل دافيد كيلي، وبعد أحد عشر عامًا من «فرية الـ45 دقيقة»، سيعتذر بلير اعتذارًا لا محل له من الإعراب، لكن الضمير البريطاني لن يحس أنه بحاجة جمعية ماسة للاعتذار للشعب العراقي وللعالم أجمع.

لكي تبقى العظة من هذه القصة كامنةً في الدور الجوهري الذي لعبه كامبل في تسويق ملف «أسلحة الدمار الشامل» لتلوكه الألسن حول العالم، وليتصدر النشرات الإخبارية وافتتاحيات الصحف وأعمدة مقالات الرأي في الجرائد.

تتوالى هذه المشاهد تباعًا أمام عيني المرء وهو يتابع «الحملة» المنهجية التي تشنها الصحافة البريطانية ضد مصر على مدار الأيام الماضية، والتي وصلت حدًا داعيًا للبحث والتحقيق الجاد فيما وراءها، بدلًا من الاندهاش الأخرس حيالها، حتى وإن كان ممزوجًا بغضب عميق.

فما هي الآلية التي تجعل جريدة ديلي إكسبريس الفضائحية تخرج بنفس عنوان التغطية عن شرم الشيخ الذي اختارته صحيفة اندبندنت الرصينة في نفس اليوم (9 نوفمبر)، وكل منهما تتخذ عنوانًا رئيسيا للتغطية: شرم الشيخ مدينة أشباح!

وما هو الباعث الذي ينحو بتغطية «مزاعم» تنظيم الدولة بإسقاط الطائرة الروسية، من كونه مجرد ادعاء، كما كانت تتناوله الصحف البريطانية في الأيام الأولى لكارثة سقوط الطائرة بصورة عرضية، ليتحول إلى جوهر التناول وعماد التغطية وقصد كل المعلومات التي يتم سوقها للتأكيد على هذه النتيجة؟

من دفع للزمار لتتغير النغمة تمامًا، وتكرس الصحف البريطانية مساحة يومية كل غرضها هو تصوير شرم الشيخ كما لو كانت جروزني في الشيشان أو إحدى بقاع الاقتتال الأهلي الطاحن في وسط أفريقيا؟

في تحقيقات الصحفي التليفزيوني الاستقصائي جون بيلجر، سيسأل مديري غرف تحرير الأخبار في المحطات التلفزيونية البريطانية عن استخدام اللفظ «links» أو «صلات» لدى الإشارة لعلاقة صدام حسين بالقاعدة في النشرات اليومية.

سيدقق الرجل في هذه اللفظة المطاطة التي تحتمل كل شيء وأي شيء، وسيحقق في مصدرها ومصدر تعميمها على وسائل الإعلام، وسينتهي الرجل إلى أن التدفيق الخبري في الإعلام البريطاني، دومًا تحوطه الشكوك، سيما حين يتناغم لدرجة التشابه فالتماثل فالتطابق.

بالطبع لا تجوز مقارنة كارثة إنسانية كتسويغ غزو العراق، بعملية «خلخلة» صورة شرم الشيخ لدى السائح الغربي في ذروة الموسم السياحي.

ورغم ربط البعض للأمر بأنه يصب لصالح مدن سياحية أخرى، بعضها إسرائيلي، إلا أن الدلالة الأهم هنا هو أن فكي ماكينة الإعلام العالمي ربما يطبقان عليك في أي لحظة.

المسألة ليست ضربة لنظام حاكم، بمقدار ما هي ضرب متعمد لبلد بأكمله.

فقد كان بمقدور الإعلام البريطاني اختلاق أو التركيز على مثلبة من المثالب المتداولة للنظام الحالي، وهو ما يتسع المجال والظرف دومًا لتضخيمه واللعب على أوتاره مع وجود مناصرين من الداخل لمثل هذا التوجه في الإعلام العالمي، ومع وجود شواهد يمكن تصنيفها بالموضوعية.

لكن الضربة جاءت ليتأكد أن الخرق يتسع. خرق الداخل المتخبط الأجوف المرتشع، وخرق الخارج الذي يوسع نطاق لعبة عض الأصابع المتبادلة.

وإذا كان على مصر أن تدير خياراتها بالتحالف مع الدب الروسي والرهان على الشريك الإماراتي في مواجهة التصور السعودي للمسألة السورية، والتصور الأمريكي للمنطقة بأكملها، فإن عليها أن تدرك أن الثمن غال، وأن المعركة ملآنة بالمفاجآت.

ومالم تستعد كوطن، قبل أن تستعد كنظام له خياراته السياسية، فإن الخسارات المنظورة أكثر فداحة من أن يتم تداركها بسهولة.