غطت الصحف الأمريكية وفاة أحمد الجلبى فى بغداد، إثر أزمة قلبية، بمقالات حول الدروس التى يجب أن تعيها واشنطن من وراء دور الجلبى فى «دفع الولايات المتحدة نحو غزو العراق واحتلاله». لكن منطق التغطية الصحفية يوحى بأن الدروس ليست «مستفادة» على الأرجح. فرغم أن خفايا الغزو والاحتلال لم يفصح عنها كلها بعد، إلا أن هناك من المعلومات ما يكفى لتحليل ما جرى قبل الغزو وأثناءه.
وأحمد الجلبى الذى ولد فى بغداد لعائلة ثرية، ثم غادرت أسرته العراق فى الخمسينات، درس فى أرقى الجامعات الأمريكية حتى حصل على درجة الدكتوراه. وتنقل بين عدة دول منها الأردن التى خرج منها هاربا بعد أن اتهم بالفساد بعد انهيار بنك بترا، الذى كان هو أحد مؤسسيه. ثم عاش الجلبى حياة مرفهة فى لندن حتى أسس هناك المؤتمر الوطنى العراقى، المعارض لصدام حسين وقتها، بإيعاز من المخابرات الأمريكية وبتمويلها. وقد عمل الجلبى بشكل وثيق مع عدد من الهيئات الأمريكية التى أغدقت الملايين على تلك المنظمة التى رأسها الجلبى، وظل الأمر كذلك إلى أن أدركت إدارة كلينتون (الديمقراطى)، ومخابراتها، ضعف «المؤتمر الوطنى العراقى» فى التأثير على الداخل العراقى ومن ثم تجاهلت التعاون معه. لكن الجمهوريين كانوا يشغلون فى ذلك الوقت الأغلبية فى الكونجرس بمجلسيه، وكان المحافظون الجدد يشغلون مواقع حساسة فى الجهاز الفنى التابع لبعض اللجان المعنية بالسياسة الخارجية والدفاع. وقد سعى بعض هؤلاء إلى الجلبى وساعدوه ودرّبوه على كيفية التعامل مع تعقيدات السياسة فى واشنطن العاصمة وبالذات لجان الكونجرس. وقد عمل الطرفان معا حتى نجحا فى عام 1998 فى تمرير قانون اسمه قانون «تحرير العراق». وهو القانون الذى وقّعه كلينتون، المحاصر وقتها بأتون معركة عزله من منصبه إثر فضحية مونيكا لوينسكى، ونص على أن تغيير النظام العراقى هو السياسة الرسمية للولايات المتحدة قبل وصول بوش للحكم بسنوات. كما نص القانون على تمويل المنظمات العراقية المعارضة، خصوصا المؤتمر الوطنى العراقى. لكن كلينتون تلكأ طوال العامين الباقيين من حكمه ولم ينفق الأموال.
ثم تولى بوش الابن الحكم، وصار المحافظون الجدد فى مواقع حساسة فى المؤسسة التنفيذية، فبدأ الاستعداد للاحتلال بمعاونة الجلبى الذى كان يمدهم بـ«معلومات» عن «أسلحة الدمار الشامل» العراقية، ويلتقى مباشرة بنائب الرئيس وقتها ديك تشينى ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد. وحين بدأ الغزو سافر الجلبى لبغداد محمولا على طائرة حربية أمريكية، وكان لافتا فى خطاب الاتحاد التالى لغزو العراق فى 2004 أن المقعد الملاصق للسيدة الأولى لورا بوش، كان مخصصا لأحمد الجلبى الذى التقطت له عشرات الصور طوال المناسبة! والجلبى حين سئل لاحقا عن المعلومات المزورة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية قال «كنا أبطالا ولكنهم يخطئون». والحقيقة أن أمريكا كانت تأمل فى أن يلعب الجلبى دور القيادة فى عراق جديد، غربى المذاق وموال للولايات المتحدة، وهو ما لم يحدث، لأن الجلبى لم يكن يحظى بشعبية داخل بلاده التى تركها صبيا وكان دوره معروفا فى علاقته بالمخابرات الأمريكية.
والواضح من تاريخ الجلبى مع المؤسسات الأمريكية المختلفة أن من فى تلك المؤسسات كانوا يعلمون جيدا حقيقة الأسلحة العراقية كما يعلمون حقيقة الرجل وسجله والشبهات حوله، ولكنهم استخدموه فى خطتهم التى كانت معدة سلفا لغزو العراق واحتلاله. وما لم تعترف واشنطن وصحفها، بذلك فضلا عن أنها لم تحقق هدفها من وراء استخدامه، فلا دروس ولا يحزنون!