مشروع قومي لا مؤاخذة!

وليد علاء الدين الإثنين 09-11-2015 21:27

انفتحت في الآونة الأخيرة حنفية الحديث عن المشاريع القومية، تفتح التليفزيون لتكتشف أن مصر بها «عشرتلاف» مشروع قومي، كل مسؤول من هؤلاء تجده يصرّح بأنه من فوق هذا الكرسي يعلن أن المشروع الذي ينفذه هو أحد أهم مشاريع مصر القومية وكمان «الكبرى».

وتمر الأيام والشهور والسنون والعقود ولا نشم لتلك المشاريع رائحة ولا نسمع للسّت قومية لا حسّ ولا خبر.
في الحقيقة، كثير من المشروعات التي يتم الحديث عنها يبدو جميلًا، ولكنه جمال يشبه قصة الرجل الحالم التي كان يحكيها لي أبي- رحمه الله.
يُحكى أن أحد الفلاحين الطيبين اجتهد حتى وفّر من وراء بقرته الوحيدة كمية وفيرة من السمن البلدي، وضعها في قِدر من الفخار، وحمل القدر على ظهر حماره ومضى إلى السوق مستغرقًا في الحلم بالثروة التي سوف يجنيهاعندما يبيع السمن ويحصل على المال، سوف يشتري بقرتين أخريين يوفر منهما كمية أكبر من السمن، يبيعها ليشتري أبقارًا أكثر ويجني من ورائها السمن الكثير، يبيعه ثم يشتري دارًا فسيحة ويتزوج امرأة كالقمر وينجب أطفالًا يربيهم، ويحكي لهم كيف بدأ حياته بقدر فخاري من السمن البلدي، فيضحكون ويفخرون بأبيهم ويفهمون لماذا يحلف دائمًا بالسمن البلدي السايح!
تخيل الفلاحُ نفسه وقد صار أحد كبار القرية، يجلس بين الناس ليحكم فيهم، فيُقسم عليهم بأغلى ما يملك؛ بمشروعه القومي: «السمن البلدي السايح»، سوف يكون السمن وسيلته عندما يريد أن يُغلظ القسم، سوف يشد قامته ويقول: «إن شاء الله دمي يسيح زي السمن البلدي».
كان الرجل مطمئنًا إلى أن السمن البلدي في بيته- بعد نجاح مشروعه القومي- لن يكون ذا قيمة، لذلك فإنه- إمعانًا في تغليظ الحِلفان- سوف يحتفظ بقدور من الفخار مملوءة بالسمن البلدي السايح ليكسر قدرًا، ويُسيّل سمنه على الأرض أمام الناس ثم يعقب ذلك بالقول: «إن شاء الله دمي يسيح زي السمن دااااهو ... إن كذا وكذا لن يتم».
في زهوة الحلم انتشى الرجل بفكرته وانشكح بكلمته المسموعة، شدَّ كتفيه على ظهر حماره، ضم قبضته العفية على عصاه الغليظة وهوى برأسها المكورة على القدر الفخاري المعلق إلى جواره، فسال السمن مدرارًا، وراح رأس المال، وتبخر المشروع القومي.
دعنا من الحمار والرجل وقِدره الفخاري، وعودة إلى المشروع القومي؛ أحد أهم شروط المشروع التي تؤهله ليحمل صفة قومي أن يصب في صالح «قومه» (بعد تخليص الكلمة من فضفضة الشعار تجد أنها تعني الناس الذين يعيشون على أرض واحدة وتجمعهم مصالح وأحلام مشتركة)، ولكي يتحقق ذلك فإن هذا المشروع يجب أن يكون نابعًا من دراسة سليمة لأحوال القوم وتوصيف دقيق لمشكلاتهم وتحديد علمي لنوع وطبيعة المشكلة التي من أجلها سوف ينشأ المشروع، وعلى حلها سوف يعمل، مع أهمية إيضاح آلية العمل وكيفية تأثيره في حل المشكلة والمدى الزمني اللازم لذلك، مع وجود سبل مراقبة تكفل للقوم التأكدَ من سلامة سير العمل والتدخل لضبطه قبل فوات الأوان.
كل مشروع لم يمر بهذه المراحل ولا يمتلك هذه المواصفات مجرد مشروع (بمعنى نية للشروع في عمل)، ولا يجوز تحميله أكثر من طاقته، وإلا أصبح ضربًا من ضروب الخداع والنصب والاحتيال على مشاعر الناس، ولعب بعقولهم وأحلامهم.
كل مسؤول يصف مشروعه الخدمي- الذي يدخل في صميم مسؤوليات وزارته أو هيئته- بالقومي، يجب أن يُحال للتحقيق بتهمة النصب والاحتيال، ليس مشروعًا قوميًا أن تصل بمستوى الخدمات الصحية التي يدفع الناس مقابلها ضرائب إلى الحد الأدنى الإنساني للخدمة!
ليس مشروعًا قوميًا أن تضبط فوضى التعليم الذي يدفع الناس مقابله ضرائب ورسوم!
ليس مشروعًا قوميًا أن تخفف الضغط غير البشري على وسائل النقل والمواصلات، لأنك كدولة مسؤول عن جودة ومستوى هذه الخدمة.
ليس مشروعًا قوميًا أن ترتقي بجودة مياه الشرب وتضمن سلامتها من الأمراض والأوبئة!
ليس مشروعًا قوميًا أن تضبط الأمن في الشوارع، وليس مشروعًا قوميًا أن تضبط عمليات نقل القمامة لترحم الناس من أضرارها وتستفيد منها في عمليات إعادة التدوير.
أن تقدم للناس حقوقهم التي حُرموا منها طويلًا وتدخل في صميم مسؤولياتك، لا يمنحك صلاحية الحديث عنها باعتبارها مشاريع قومية تمنّ عليهم بإنجازها، إنها مسؤولياتك التي يجب أن تنجزها وإلا دع المكان لغيرك.
كذلك ليس مشروعًا قوميًا أن تقرر منفردًا إنشاء هرم جديد– مثلاً، لمجرد أنك سمعت ذلك في جلسة، أو أن أحدهم من بقايا العهد البائد أقنعك بأن الهرم كان مشروعًا قوميًا!
لا تتعجبوا، فوزير الاستثمار المصري يرى أن هرم خوفو أهم مشروع قومي أنجزه المصريون أيام الفراعنة! (هذا تصريح رسمي ولا علاقة له بحدوتة الرجل والحمار وقِدر الفخار).
وفي هذه الحالة ليس غريبًا أن يستعمل بقية المسؤولين مصطلح «قومي» في الطالعة والنازلة، وأن تلتصق الكلمة سيئة السمعة بكل مشروع يرتفع كالهرم في سماء المجد من دون خطة تضمن أن يُنتج هذا المجد للـ«قوم» شيئًا يطعم أفواههم أو يُغيّر من أحوالهم أو يقلل من مشكلاتهم أو يمهد لمستقبل عيالهم.
وليس غريبًا أن يظن كثيرون أن المشروع القومي هو مشروع يمكن تشغيل الشباب فيه بالسخرة أو مقابل لقمتهم (تصريحات مسجلة لمسؤولين وشباب مصريين)، فلم لا؟ وقد كان هرم خوفو مشروعًا قوميًا!
يكفي أن تكتب في محرك البحث جوجل كلمتين: «مشروع قومي» واحسب- لو كنت فاضي- عددَ المشاريع القومية التي أعلن عنها مسؤولون مصريون في الشهور الستة الأخيرة فقط، مشاريع قومية في كل المجالات وحسب الطلب وعلى كل شكل ولون ومقاس، وربما بمذاقات ونكهات متعددة، من طعم الموز وأنت طالع وصولًا إلى قصب السكر، حتى أصبحتُ أنتظر أن تضاف كلمة «مشروع قومي» إلى الكلمات التي- لكثرة استباحتها- يُلحقها المصريون الطيبون– تأدبًا- بلاحقة: لا مؤاخذة.

waleedalaa@hotmail.com