لا يمكن لمصر أن تنهض وتقوى وهى تقوم على ساق واحدة هى القوات المسلحة، فهى التى تقاوم الإرهابيين، وهى التى تنفذ المشروعات العملاقة، وهى التى تقيم علاقات استراتيجية عابرة للحدود، وهى التى تتدخل فى مجريات السوق لكى تخفض الأسعار، وهى التى تنقذ البلاد من الأمطار. الأصل فى الموضوع أن الشعب، الكيان السكانى المدنى للدولة، هو الأصل، والجيش إحدى أدواته للدفاع والحماية من ناحية، والتدخل عند الأزمات والكوارث من ناحية أخرى. الوضع الحالى فى مصر يبدو شاذا وخارجا على ما يجب أن يكون عليه مقتضى الحال، الذى يجعل القطاع المدنى فى البلاد ظهيراً للجنود، وليس عبئا ثقيلا عليهم لا ينفك يزداد ثقله. الكتلة الرئيسية من الشعب تظهر فى المؤشرات كلها وهى فى حالة عجز مزمن: فى ميزان المدفوعات، والميزان التجارى، والموازنة العامة، والجحافل التى تدخل دائرة الفقر والفاقة، وتلك القلة التى تخرج منها. النتيجة أنه بات لدينا عجز مدنى هائل، متعدد الأوجه، بين بيروقراطية فاشلة، ورأسمالية دخلت حالة من الإضراب، وأحزاب لا تُقنع الغالبية بالذهاب إلى التصويت، ومجتمع مدنى يكفى بالكاد لإدارة الضعف فى الدولة.
هذه الحالة المصرية المقلوبة قامت على قاعدتين: الأولى أن القوات المسلحة أنابت عن الشعب فى التغيير الكبير فى طبيعة الدولة ونظامها فى يوليو 1952، ومن ساعتها تحملت المسؤولية العظمى لتنمية ونهضة ما كان ساعتها 22 مليون نسمة، حتى بلغ عدد المصريين (المقيمين فى مصر) 90 مليونا. والثانية أن الشعب نفسه قَبِل هذه الهبة، وبات ينتظر التعويض المستمر، بل الإنقاذ الدائم إذا ما كانت الخيارات الشعبية أحيانا خاطئة. والحقيقة أنه لا يمكن لمصر أن تمضى قدما إلى الأمام ما لم تستوِ المعادلة، ويستقِم الميزان. والمهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة، والهدف يقارب السحاب، ولكن كما يقال إن الأمانى لاتزال ممكنة إذا ما توفر الحزم والعزم اللازمان لطلاب العلا والمجد. ووسيلة ذلك السياسة، وليس غيرها، فهى المنوط بها توقيع القيم، واستخدام القوة المشروعة، وتنظيم الدولة، واتخاذ القرار. والثابت الكبير أن الناس لا تشارك، ولا تصير «ظهيرا» مدنيا للدولة إلا فى ظرفين: أن تكون مشاركة فى السوق، صانعة للقيمة، سلعة كانت أو خدمة، أو أن تكون الدولة فى لحظة تهديد مصيرية. والثابت الآخر أن مَن بهم عجز لا يتحركون إلا إذا صار لديهم قرار بالاعتماد على أنفسهم، وأن طرفا آخر لن يكون هناك دائما على استعداد لكى يحمل العبء على عاتقه.
الثابت الآخر أن تحمل المسؤولية تدريب، يبدأ فى كل المجتمعات من أسفل ومن المجتمع المحلى، وهناك تبدأ المواجهة مع الكوارث والأزمات. لاحظت خلال وجودى فى الولايات المتحدة، حيث الظروف المناخية ليست أبدا على ما يُرام، أن هناك جماعة بين المواطنين تُعرف بـ«المستجيبين الأوائل» أو First Responders، الذين ما إن تحل الكارثة أو الأمطار والعواصف، وأحيانا الحرائق فى الغابات، حتى يتدافعوا لعون «المحليات»، التى هى بطبيعة قدراتها محدودة، فتتضاعف قدرتها على الفعل، ويتم تنظيم الاحتياجات من كهرباء وإنقاذ ومساعدة لغير القادرين بالمال أو بالصحة أو لكبر السن، وكل ذلك حتى تأتى النجدة من حكومة الولاية، وإذا لزم الأمر الحكومة الفيدرالية التى قد ترى استخدام القوات المسلحة.
فى حالتنا، مهما كان الواقع، فإن المجتمع كله يتصرف كما لو أن شيئا لم يقع، ومَن لديه موعد يذهب له فورا، ومَن كان يعمل فى نقل المواطنين فإن شيئا لا يتغير إذا ما انسدت الطرق أو انقطعت السبل. النتيجة دائما تفاقم المشكلة بدلا من أن تنخفض حدتها إلى أدنى حد ممكن. بالطبع من الممكن ألا يتوقف الصراخ والضجيج حول حالة الطرق والفساد الذى جرى عند إقامتها، والبلاعات التى لا يعرف أحد ما إذا كانت تعمل أو لا تعمل، أو أنها من الأصل غير موجودة، لكن كل ذلك مكانه ساحات بعينها من أول الإعلام إلى المجالس المحلية إلى النيابية حتى الوصول إلى المحاكم، ولكن كل ذلك يمكنه الحدوث دون أن تتفاقم الأزمة، وتنغلق الطرق تماما، ويستحيل وصول المريض إلى المستشفى.
الثابت الثالث أن «المجتمع المدنى» هو العمود الذى يقوم عليه كل ما سبق، ورغم كل العوائق التى تقف فى طريقه، فإنه يحاول ويناضل، ولكن فى ساحة واحدة هى الصدقة والإحسان والزكاة. الأمر يمكن أن يكون أكثر اتساعا بكثير، فيكبر رأس المال الاجتماعى، الذى هو التمهيد الطبيعى لرأسمال سياسى ناضج. والحديث دائما موصول.