بعض القراء لا يفهمون الظروف التى يكتب بها الكاتب، ومساحة المسموح وغير المسموح. وما يمكن أن يمر وما لا يمكن أن يمر، بالذات مع ظروف سياسية عاصفة، اختلط فيها مفهوم الدين بالإرهاب، وتماهت الوطنية مع تأييد النظام. يحدث هذا فى وقت تتوالى فيه رؤوس الذئاب الطائرة بكثافة أكثر من اللازم. ولسان حال الجميع: «انج سعد فقد هلك سعيد»!
برغم هذه المخاطر فإن بعض الكتّاب مازالوا يحرصون على قول كلمة الحق، ويحرصون على رضا ربهم ويرجون مثوبته، بالإضافة إلى إشفاقهم على وطنهم الذى يرونه يسير- من وجهة نظرهم- فى عكس الاتجاه الصحيح.
لكنهم فى الوقت نفسه يخشون على أنفسهم مثل أى بشر طبيعيين. ذلك أنهم يعلمون جيدا أنهم لا قِبل لهم بالبهدلة والجلوس على البرش وقلة القيمة فى السجون والأقسام.
هؤلاء الكتاب يكتسبون بالتدريج مهارة تمرير ما يودون قوله بأكبر قدر ممكن من التلطف، يكفل لهم قول الحقيقة، وفى الوقت نفسه عدم البهدلة. مع التأكيد أنه لا توجد ضمانة لأحد فى الظروف السياسية العاصفة والنزاع على السلطة.
ولقد تعلمت من ممارسة الكتابة درسا مهما وهو أن ما يُقال بعنف يمكن أن يُقال بتلطف. ويصل المعنى فى النهاية دون ألفاظ جارحة. لكن المشكلة أن بعض القراء لا يكتفون بهذا. فهم يريدون من الكاتب أن يعبر عن أكثر أفكارهم غلظة وخشونة بأكبر قدر من العنف والتهكم. بالضبط كما يستخدمون هم أقذع الألفاظ على مواقع التواصل الاجتماعى، دون أن يفطنوا إلى البون الشاسع بين ما يُنشر على الفضاء الإلكترونى الشاسع، الذى يستحيل مراقبته ومحاسبة المسؤولين عنه عمليا، وبين كلام منشور مسجل على صحيفة رصينة ذائعة الانتشار.
والمدهش أنه مهما أبدى الكاتب شجاعة تتخطى المخاطرة أحيانا إلى (الاستبياع)، فإنهم يبدون غير راضين على الإطلاق. وتجدهم يؤنبونه: «لماذا كتبت هذا؟ ولماذا لم تكتب ذاك؟ ولماذا تلطفت فى قول هذا؟ لقد صُدمنا فيك وتبين أنك لا تمتلك الشجاعة الكاملة». وكلام كثير على هذا النحو. طبعا هم لم يسألوا أنفسهم قط هل الكلام الذى يقترحونه قابل للنشر أصلا؟ وبفرض أن الصحيفة نشرته، فماذا سيحدث لمن كتب هذا الكلام؟
يعنى المطلوب منه أن يصبح الكاتب (كميكازى)، وهم مقاتلون يابانيون انتحاريون، كانوا يربطون رؤوسهم بالعصابة الحمراء علامة على أنهم ذاهبون للموت، ثم يشربون (الساكى) بعدها ينطلقون بطائراتهم الزيرو الشبيهة بلعب الأطفال لتفجير أنفسهم فى السفن الأمريكية.
مطلوب منى إذاً أن أصبح (كميكازى) أشرب الساكى وأعصب رأسى وأذهب للانتحار كى أسليهم! وطبعا إذا أطاعهم الكاتب وتعرض بعدها للإيذاء فإنهم لن يشعروا بأى ذرة تأنيب ضمير، بل سيطربون بذلك لأنه سيؤيد نظرتهم أنه نظام ظالم ويبطش بالمختلفين من الكتاب، وسوف يستغلونه فى معاركهم الكلامية.
أعرف السيناريو المتوقع جيدا: سوف يتم تحويل هذا الكاتب إلى بطل لمدة يومين على الأكثر ثم ينسونه تماما. بعدها سيعودون لمواصلة هواياتهم فى كتابة البوستات على الفيس بوك آمنين تماما من أى ملاحقة. وسيقذفون فى أفواههم بحبات العنب، بفرض أننا فى موسم العنب، مستمتعين بالتسلية التى أطربت قلوبهم.
إنهم ظرفاء حقا هؤلاء المتحمسون. قد يبدون لكم أنانيين وجديرين بالنفور، ولكن بالنسبة لى فإن لدىّ مزية بصراحة: وهى أننى أقدر هؤلاء الذين يحبون أنفسهم بشدة، فيالهم من أناس رائعين.