تعددت اجتهادات الناس في سر عدم إقبال المصريين على انتخابات مجلس النواب، بداية من السيدة التي اعتبرت الأمرَ عيبًا في التربية ووجهت اللوم إلى أمهات الشباب الذين امتنعوا عن التصويت، وصولًا إلى من طالب بمعاقبة كل من امتنع عن الإدلاء بصوته، مرورًا بالعديد من الافتاءات التي تنوعت بين المضحك والمبكي والمثير للغثيان.
وسط ضوضاء الافتاءات والمندبة التي نصبها رجال ونساء الإعلام، لم يفكر أحدٌ أن ما فعله الناس بالفعل هو وسيلة للتعبير عن عدم رضاهم عن الطريقة التي أديرت بها الانتخابات البرلمانية، وأن تجاهلهم ليس إلا رسالة جماعية مؤداها: لم نفهم ولم نقتنع بما قمتم به، وأن ما افترضتم أنه نقاش وطرح واستبيان للرأي العام لم يكن معبرًا عنا، إنما عن هذه الشلة من الانتفاعيين ممن يسمون أنفسهم قيادات شعبية وحزبية، والشلة الأخرى من الطبالين الذين يسمون أنفسهم رجال ونساء الإعلام، وشلة ثالثة من صبيان الزفة الذين يزيطون مع كل زيطة!
هل فكر أحدُ أصحاب الرأي والرؤية في ذلك؟ هل فكر أصحاب القرار السياسي في تللك الفرضية؟ أم أن ضجيج الإعلام وظياط الظياطين منع وصول صمت الجماهير إلى آذانهم؟ رغم أنه كان صمتًا مدويًا وبليغًا ومعبرًا ومباشرًا لم يرقص على الحبال ولم يتحنجل أو يلبس مزيكا!؟
عندما قرر رئيس الجمهورية- بصفته جامعًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية- تغيير قانوني مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب، ألم يكن الهدف هو الارتقاء بالممارسة الديمقراطية لتكون أكثر قدرة على التعبير عن إرادة الشعب؟ يعني أن يفسح المجال للشعب لاختيار جيد لمن يمثلونه في أول برلمان منتخب بعد ثورتين؟ هكذا يُفترض.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تجاهل رئيس الجمهورية ردَّ فعل الشعب الذي لا معنى له سوى عدم الرضا عن تلك القوائم والقانون الذي سمح لها بالوجود؟
لماذا صمَّتْ القيادةُ السياسة آذانها عن هدير المصريين الصامت الذي قال بعزم وعلو صمته: لا نثق في هؤلاء الأشخاص الذين جاء بهم القانون، لا نعرفهم، لا يمثلوننا ولا نأمل خيرًا من وراءهم؟
كيف غاب هذا المعنى عن قيادة سياسية أعلنت أنها سوف تحنو على الشعب المصري الذي حُرم طويلًا ممن يحنو عليه!
لماذا نطبل ونهلل ونستخرج أغاني «المصريين أهما» من أدراجها عندما يملأ المصريون الشوارع تأييدًا لما نريد أو رفضًا لما نرفض، فقط عندما تتوافق الاتجاهات.
بينما نشتمهم ونسبهم عندما يتخذون -بالأغلبية- موقفًا غير ما تمنيناه، من دون أن نحاول فهم انسحابهم وحزنهم وقهرتهم وكسرة قلوبهم على ثورتهم وخيبة أملهم في جهدهم الذي ضاع هدرًا وعلى ثقتهم التي يخشون أن يكونوا قد وضعوها في غير محلها؟
لماذا لا نفهم أن السبب في العزوف هو ببساطة رسالة أراد الشعب أن يرفعها إلى رئيسه: نحن غير راضين عن ما يحدث، ولا تسمع عنّا سوى منّا مهما علا ضجيج الإعلام وارتفعت أصوات المحللين والخبراء؟!
إنه عدم الرضا يا سيدي الرئيس، ليس عنك ولكن عمّن يحاولون مصادرة صوت الشعب والتحدث باسمه، ها هو الشعب امتنع عن المشاركة في لعبتهم رغم توفيرهم له كل السبل: منحوه الإجازات وطبّلوا وزمروا في وسائل الإعلام على مدار الساعة ترغيبًا وترهيبًا، «شحتوهم شحاته …»، ولم ينزل ولم يشارك سوى القلة، لأن الشعب راهنَ على أنك سوف تلتقط الرسالة، فهل فعلت؟!
لماذا لم تصلك الرسالة؟
هل صدقت تامر أمين واقتنعت بأن «تارك الانتخابات مقصر في حقه وطنه وبلده»؟ أم أعجبك رأي عمرو أديب بأن المصريين «تعبوا من الذهاب إلى صناديق الاقتراع» وأن الأمر مجرد عودة إلى الكنبة التي اعتاد المصريون الرحرحة عليها ومشاهدة الحَكَم وهو يحكم؟ أم أعجبتك افتكاسة أحدهم بأن الشعب قرر أن يحميك (…) بالامتناع عن التصويت!
جيد أنك لم تستمع إلى السادة الذين طالبوا بتطبيق قانون الغرامة المالية على الممتنع عن التصويت، وبالمرة تضبط عجز الموازنة الكبير! أو تحن لمن طالبوا بسحب الجنسية من الممتنعين، أو إدراجهم على قوائم خاصة وحرمانهم من صلاحيات المواطنين المشاركين!
لكن الخوف أن تكون اطمأننت إلى تحليلات الجهابذة أحمد موسى ومصطفى بكري وغيرهم بأن الإقبال الضعيف «معتاد وطبيعي، ولا يؤثر في سير العملية الانتخابية» واعتبرت -مثلهم- «إنه المهم يبقى عندنا برلمان وخلاص»!؟
كلي ثقة طبعًا في أنك لا تشارك السيدة مستشارة الرئاسة لديكم التي رأت أن المشكلة في من لم يذهب إلى الانتخابات مشكلة تربية، أو بتعبير أدق مشكلة «عدم تربية»، لا أتوقع منك ذلك، كما لا أتوقع أن تكون حانقًا علينا لأننا لم نجد في الانتخابات من يعبّر عنّا، وفي الطريقة التي تمت بها اختيارات القوائم وتقسيم الدوائر ما يبرر غموضها، وفي الطنطنة الإعلامية التي اعتبروها مناقشة للحصول على بركة الرأي العام ما يمنحنا بركة الاطمئنان … فاعتبرنا صمتنا الرسالة الوحيدة التي نستطيع القيام بها … وانتظرنا أن تلتقطها.
لن أقول مثلما يقول الكارهون أن إحجام المصريين رسالة رفض لك شخصيًا، ولكني متشبث بأنها رسالة لك، أخشى أن يجعل منها التجاهل وعدم الانتباه، الرسالة الأخيرة، لتنفصم بعدها عرى العلاقة بين الشعب والرئيس ولا نتوقع ما بعدها من سيناريوهات.
ولن أقول مثلما قال أحد الكارهين: «دي فضيحة» و«إن شكلنا بقى وحش أوي» لأنني- على العكس من ذلك- أرى أن ما فعله المصريون هو الفعل المشرف الوحيد اللائق بشعب أحسَّ بوجوده وملأه الأمل في واقع يكون فيه هو اللاعب الرئيس وليس مجرد متفرج، ويكون فيه البرلمان صوتًا حقيقيًا للشعب وليس مجرد ديكور في فيلم لا دور للشعب فيه سوى الفرجة.
هل ننتظر أن تصل الرسالة، وأن نشاهد رد فعل رسمي شجاع يليق بفعل المصريين الشعبي الشجاع!
ليس أقل من إلغاء نتيجة هذه الانتخابات نزولًا على رغبة السيد الشعب وإعادة النظر في قانوني مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب، وصياغتهما بما يليق بهذا الشعب العظيم.
هل ننتظر إجابتك على رسالة الشعب، سيدي الرئيس؟
https://twitter.com/waleedalaa