زيارة إلى نادى برشلونة

أحمد المسلمانى الإثنين 02-11-2015 21:27

زرتُ إسبانيا قبل أعوام ثم عدتُ لزيارتها قبل أيام. فى المرة الأولى زرتُ نادى ريال مدريد، وفى المرة الثانية زرتُ نادى برشلونة.. وفى المرتين كانت معظم أحاديث من قابلت عن كرة القدم.. ثم يمضى الحديث قرب نهايته إلى «السياسة».. ثم إلى «الحضارة».

(1)

قال لى صديق يعمل فى شركة كبرى فى إسبانيا: فى الأيام الأولى لعملى هنا رأيتُ بعضَهم يقول للبعض الآخر «إنه عربى».. ثم لاحظتُ أن ذلك قد تكرر أكثر من مرة.. وقد ظننتُ فى البداية أنهم يتحدثون عن أننى «عربى».. أى أننّى «غير متميز»، وأننّى أقلّ من المعايير القائمة.

لكن طريقةَ الحديث عن كوْنى «عربيًا» لم تكن مسيئَة.. ثم أدركتُ أنهم يقولون ذلك على سبيل المديح والثناء.. ذلك أنهم يرون «العربَ» أصحاب حضارة لاتزال معالمها شامخةً فى بلادهم.. وأنّ من يزور «أندلسية»- منطقة الأندلس فى إسبانيا- سوف يُصاب بالذهول من المستوى الأسطورى الذى وصلت إليه الحضارة الإسلامية فى أوروبا قبل قرون.

(2)

الصورة الذهنيّة للعرب- إذن عند كثيرٍ من الإسبان.. أنهم أصحاب تلك الحضارة الباهرة فى قرطبة وأشبيلية وغرناطة.. أنهم أصحاب «العلم» و«المعرفة».. فى الطب والهندسة والفلسفة.

ففى الأندلس.. يتجلّى تفوّق «العقل الإسلامى».. جلالاً واحترامًا.. فالمدرسة الإسلامية فى العمارة والفنون الجميلة لا مثيلَ لها.. والمدرسة الطبيّة الإسلامية فى التشخيص والعلاج لا سابقَ لها.. والمدرسة الفلسفية الإسلامية فى الارتفاع بالعقل والسموّ بالروح.. فى إبداع عميق.. يصلُ العلمَ بالإيمان، ويزن بين تطويع المادة وتهذيب النفس.. لا مكافئَ لها.

(3)

فى الأندلس.. كانت الحضارة بمستوى الإسلام.. وكان المسلمون بمستوى الحضارة. كان ذلك فى زمنٍ لم تتحكم فيه «جماعات الإسلام السياسى» فى المكان.. والتى ما إن ظهرت- فيما بعد- حتى انهزمَ المسلمون.. وخرج الإسلام من إسبانيا!

كان مفكرّو «الإسلام الحضارى» هم من قاموا بالبناء، وكان منافقو «الإسلام السياسى» هم من قاموا بالهدم. كان العلماء والفلاسفة وأهل الفكر والعقل هم من صَنَعوا تلك الحضارة الإسلامية البديعة فى جنوب أوروبا. وكان المتطرفون والمتنطّعون من جماعات الإسلام السياسى هم من قاموا بنشر «ثقافة الوهن» فى المجتمع والدولة.. تفسيقًا وتبديعًا وتكفيرًا.

أَقَامَ «المعتدلون المسلمون» الدين والدنيا فى «آخرِ بلادِ المسلمين».. وهَدَمَ «المسلمون المتطرفون» الدين والدنيا فى قلبِ بلادِ المسلمين!

(4)

لو أن «الإسلام الحضارى» كان هو المنتصِر الآن.. لكانت مكانة المسلمين هى الأعلى فى العالم.. ذلك أن غيَاب الدور الروحى للإسلام.. وانكسار الرسالة الأخلاقية للمسلمين.. أصابَ- ضِمن ما أصابَ- الغرب نفسه.

ذلك أن المسلمين ليسوا وحدهم من يحتاجون القيم الساميّة فى الإسلام.. بل العالم بكامله يحتاج إلى ترميم الروح.. واستعادة القيم.. والعودة من «اللامعنى» و«اللاإنسانية» إلى المعنى والرسالة.

(5)

كان ممّا أدهشنى كثيرًا فى زيارتى إلى نادى برشلونة.. هو ما سمعتُه من أصدقاء يقيمون هناك عن تجاوز بعض مشجعى النادى مستوى «الانتماء» إلى مستوى العقيدة.. ومستوى «التشجيع الكروى» إلى مستوى «الدين الرياضى».

(6)

تستغرق زيارة نادى برشلونة ساعتيْن تقريبًا، يزور خلالها المرء أرض الملعب والمدرجات.. ويتجول فى متحف للصّور ومتحف للمباريات.. ومتجر كبير لبيع ملابس ومنتجات النادى.. ومطاعم ومقاه يرتادها آلاف من الزوار يوميًا.

كم تمنيتُ أن يقوم «النادى الأهلى» و«نادى الزمالك» بنقل هذه التجربة.. لاسيّما أن «الأهلى والزمالك» لديهما تاريخ عميق يمتدّ لأكثر من قرنٍ من الزمان.. كما أنهما يحظيَان بمكانة دولية متميزة.. وبمكانة أفريقية وعربية لا نظير لها.

(7)

يقوم اقتصاد نادى برشلونة على بيع كل شىء.. إنكَ أثناء جولتك تجد من يطلب منك أن تلتقط صورًا تذكارية، ثم يقول لك: ليس من الضرورى أن تشتريها فقط عليك أن تمرّ فى نهاية الرحلة على منفذ بيع الصور.. شاهد نفسك بنفسك، وإذا أعجبك أى شىء يمكنك حينئذٍ الشراء.

وحين تذهب تجد ألبومًا رائعًا يحوى صورك ذات الجودة العالية.. وتجد نفسك فى بعضها واقفًا فى المنتصف ومن حولك نجوم فريق برشلونة.. أو تجد نفسك إلى جوار نجم كرة القدم «ميسى»!

لاشك أنك التقطت العديد من الصور بهاتفك.. ولاشك أنك حاولت التنويع ما بين صور «السيلفى» وصورك مع بعض الزوار الذين سيصبح بعضهم أصدقاءك بعد قليل.

ولكنك رغم ذلك كله.. ستشترى صور النادى، وستدفع عشرات «اليوروهات» بارتياح تام.. لتعود بألبوم ممتع لزيارة نادرة.

(8)

ليس هذا هو كلّ ما عند نادى برشلونة.. ذلك أنه بدأ يبيع «الموت» بعد أن نجح فى بيع «الحياة»!

ثمّة عدد من غير المتدينين فى أوروبا يريدون حرق جثثهم بعد موتهم.. ويطلبون من أقاربهم نَثْرها فى المكان الذى يحبونه.. وهناك من يطلب نثر رمادِه فى البحر.. أو الغابة أو فى مكان كان يرتاح له فى الحياة الدنيا.

الجديد.. أن بعضهم يريد نَثْر رماده فى استاد برشلونة!

والمثير.. أن نادى برشلونة قد وافق مبدئيًا على ذلك.. ويفكر جديًا فى فرض رسوم باهظة لمن يرغب فى الأمر.

(9)

عدتُ من زيارتى لنادى برشلونة مدركًا الأهمية المتزايدة للتسويق فى العصر الحديث.. لكن الأهم هو إدراكى للمكانة التى حققها الإسلام الحضارى فى الأندلس.. والمهانة التى ألحقتها جماعات الإسلام السياسى بأكثر من مليار ونصف المليار مسلم.

إننا فى حاجة كبرى لإعادة قراءة حضارة ما قبل الإسلام السياسى.. حضارة الأندلس.

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.