مبدئياً لابد من الاعتذار عن أى دلالات سلبية للعنوان، فالمقصود ليس النيل من الشخصيات التى عكفت على مناقشة نصوص مشروع الإعلام الموحد على مدى أكثر من عام. فمن بينهم أساتذة علموا جيلى، وزملاء وأصدقاء لا يوجد شك فى نواياهم.
لكن النوايا الطيبة (على افتراضها دون سواها) لا تكفى لوضع تنظيم يحكم قطاعا شديد الحساسية، يتطور بصورة مذهلة تجعلنا نلهث وراءه يوما بعد يوم. وهذا التطور تحديداً هو ما غاب عن اللجنة وانعكس فى نصوص غريبة عجيبة مقترحة لتنظيم (هكذا قيل) للصحافة الإلكترونية على وجه التحديد. نصوص تعكس الفجوة الكبيرة بين جيل القيادات حبيس إعلام الماضى وجيل القاعدة الأكبر من الشباب صانع هذا الإعلام ومستهلكه. النصوص المقترحة تصل إلى حد القضاء على أى محاولة للتجديد، بما فى ذلك كل المبادرات التى تعرفها مصر الآن مثل «قل» و«16 ثانية» و«مدى»، كلها بلا استثناء مصيرها المنع ويضاف إليها حتى صفحات الفيسبوك التى حققت نجاحات فى فترات معينة مثل «ده بجد» أو «ثقف نفسك»، بل وحتى حسابات تويتر للكثيرين ممن لهم متابعون يفوقون بكثير متابعى بعض وسائل الإعلام. ولو كانت هذه القوانين موجودة لما عرفنا باسم يوسف ولا حتى إنتاجاً من نوع «الفرنجة»... إلخ. بما يعنى باختصار أنها مشاريع قوانين تُحكم حلقة التضييق على الإعلام وتكمل منظومة القوانين القامعة للحريات، غير أنها أتت هذه المرة من أبناء المهنة أنفسهم وبرعايتهم الكاملة.
خمس مواد قاتلة
اختار القائمون على المشروع المنع كمبدأ. وهو اختيار لا تعرفه إلا دول استثنائية تحكم بالحديد والنار. فى معظم دول العالم حرية إنشاء المواقع مطلقة دون ترخيص مسبق، ويحكم المادة المنشورة «تنظيم بعدى» أى بعد الإصدار. فى المشروع المصرى الاختيار كان للتحكم «القبلى» أى «قبل» أن تطلق موقعك أو حتى المدونة أو حساب الفيسبوك أو أنستجرام... إلخ، مادام ما تقدمه عليه يهتم بالشأن العام وليس بأخبار الأهل والأصدقاء، ومادام متاحا للجميع، كما يأتى فى نص المادة رقم 62 التى تُعرف الإعلام الرقمى تعريفا واسعا شديد الاتساع على أنه «كل بث يصل إلى الجمهور أو فئات معينة منه... لا تتسم بطابع المراسلات الخاصة بواسطة أى وسيلة من الوسائل، وغيرها من التقنيات الحديثة».
ثم تأتى المادة 63 لتقول: «لا يجوز إنشاؤها أو تشغيلها أو الإعلان عنها قبل الحصول على ترخيص».
وبنظرة على قوانين الإعلام فى العالم لن نجد إلا سنغافورة (باستثناء كوريا الشمالية والصين وما إليهما) كدولة اتخذت مبدأ المنع كالمشروع المقترح. غير أن المشرع فى سنغافورة المعروفة بنظام رقابة حديدية كان أرحم من أبناء المهنة فى مصر. فحدد بوضوح معايير للتفرقة بين «المؤسسة» والمواقع الأصغر والحسابات الشخصية. فحدد الموقع الخاضع للترخيص بمعدل للزيارات يصل إلى خمسين ألف زائر شهريا فى دولة عدد سكانها لا يتجاوز خمسة ملايين. بينما خلا النص المصرى من أى معايير وترك الأمر مفتوحا لهوى من يشاء.
وتعاقب المادة 156 من يقوم بعملية البث الرقمى دون ترخيص بغرامة لا تقل عن ربع مليون جنيه ولا تزيد على نصف مليون.
وتتفوق المادة 75 على كل ما سبق فهى تمنع بث الفيديوهات تماما إلا بعد رأسمال لا يقل عن نصف مليون جنيه للمحطة أو القناة التليفزيونية الرقمية على الويب مع تعيين مسؤول للبث لديه خبرة لا تقل عن عشر سنوات، متجاهلة أن أهم إبداعات الفيديو على الويب خرجت من غرف المنازل بأبسط الإمكانيات، وممن امتلكوا إبداعا لا علاقة له بسنوات الخبرة، (لا أدرى ما هو نوع الخبرة المطلوبة؟ وكيف يمكن أن تكون عشر سنوات مع حداثة هذه الوسائل الجديدة؟).
أما المادة الخامسة، وهى المادة 73، فهى الأغرب والأكثر دلالة على الجهل التام بالتكنولوجيا الحديثة، فالمادة تطالب منتج المادة بالحصول على موافقة المجلس الأعلى فى حالة استقبال المادة أياً كانت على الهواتف الذكية! وكأنه المسؤول عن كل فرد يستبدل هاتفه المحمول بهاتف أحدث به إنترنت، ولا يعلم من وضعوها أن عدد ما تستخدمه المؤسسات الإعلامية من منصات إلكترونية وصل إلى 12 منصة.
مصر.. بلد عجوز
مصر بلد عجوز، نعلم ذلك جيدا. بلد يسوده هوس خبرة السنين ولا يعترف بالمهارات ولا بالكفاءة الا مرتبطة بعدد سنوات العمر. ومصر بلد شمولى ليس بالمعنى السياسى لكن بالمعنى الثقافى. فهناك عشق التحكم فى كل شىء والسيطرة على كل شىء. فلا مجال لشاب مبدع، ولا مجال لمساحات حرية للمصرى ليختار حتى وإن أخطأ. ومواد القانون المقترح فيما يتعلق بالصحافة الإلكترونية انعكاس واضح لذلك. وهى بما تحمله تتكامل مع قانون الإرهاب ليغلق بالضبة والمفتاح كل مساحة للإبداع والتجربة والخطأ وحق الأفراد فى الاختيار.
فى زيارة لباكستان قبل أسابيع قليلة اكتشفت أن السلطات تمنع استخدام موقع يوتيوب، وبمجرد أن سألت كيف يشاهد الباكستانيون الفيديوهات على الإنترنت، قالت لى صحفية شابة: نشاهد كل شىء كما نريد. واستطاعت فى أقل من خمس دقائق أن تفتح لى قناة يوتيوب عن طريق موقع وسيط، ولسان الحال: «ليه تتعبوا نفسكم» فى سن قوانين يعلم الجميع استحالة تطبيقها، أو بالأحرى يعلم الجميع ذلك باستثناء «الكبار» واضعى القانون.