لا تُدرْ ظهرك إلى الحرية

أحمد الشهاوي السبت 31-10-2015 21:19

لا يمكن أن يكون هناك تنويرٌ يصوغ المجتمع ويقودُه، أو تجديدٌ للخطاب الدينى يصنع الروح، أو تنقيةٌ للتراث الذى تركه لنا الأسلاف تُبيِّن الغريب والعجيب والمدسُوس والمُختلق من الحقيقى فى ظل غياب صحافةٍ حرّة، أو فى تقييد لحرية التعبير، أو فى تكبيلٍ لقادة الرأى من الكتَّاب والصحفيين بقوانين جائرةٍ من شأنها أن تشلَّ قلمه، وتُغلق عقله، وتُجفِّف حبره، وتحدَّ من حرية الكلام على الورق، ومن ثم سيكون مصيره السجن أو دفع غرامةٍ لا يقدر عليها هو ولا المؤسسة التى يعمل بها، وإن قدرت فلن تدفعها عنه.

والتنوير الكامل والحقيقى لا يتشكَّل فى بوتقة أيادٍ مرتعشة رمادها أكثر من نارها، كما أنه لن يتحقَّق فى ظل بروز اللافتة الجلية المختفية «الأخ الأكبر يراقبكم»، لأنَّ الأمم لم تنهزم أو تنسحق أو تتأخر أو تسقط إلا لأن الأخ الأكبر كان مشغُولا بالمُراقبة، والتى صارت شاغله الأول أكثر من انشغاله بالمجتمع والشعب.

وهنا تأخذنا مقولة كانط «1724- 1804م» الشهيرة الواردة فى كتابه «ما الأنوار»: «التنوير هو الخروج من القُصُور الفكرى إلى الرشد.. فلتكن شجاعًا على استعمال عقلك» إلى الجهة التى نبتغيها فى خلق عقلٍ عربىٍّ يسأل ويُخلخل ويفكِّر، وليس فقط يتلقَّى.

لأن جوهر القائم بالرسالة التنويرية وهدفه هو بناء مفهوم جديد للإنسان يتأسَّس على المصارحة والخَلْق والصدق والنقد، بل وحتى الهدم، كى تتم إعادة البناء على أسسٍ ديمقراطية سليمة، وفق تصورات مثالية، لا تبتغى إلا تأسيس مجتمع حرٍّ ليس فيه عبودية لفردٍ أو فكرةٍ أو اعتقادٍ ما.

فالتنوير يُحرر الإنسان من أوهامٍ لطالما ترسَّخت، ويكسر أمامه أصنامًا عُبدت طويلا، ويضعه دائمًا فى مواجهة الحقيقة الجلية التى لا تشوبها شائبة، ولا التباس فيها.

والتنوير يعنى للفرد كمالًا وسعادةً وعدلًا ومساواةً وصدقًا وعُمقًا فى الخطاب، لأن المُنوِّر أو المُوجِّه أو صاحب القلم فى ذلك الوضع يعنى أنه يذهب حيث يقوده عقله، وليس مراقبًا من أحد، أو يتلقَّى تعليماتٍ من جهةٍ ما تُمْلى عليه ما يكتب.

والكلام بشكلٍ عام لا ينمو أو يتطور أو يعمُق إلا فى مناخ الحرية، ويا ويل أمةٍ تدير ظهرها لكاتبٍ أو صحفىٍّ أو شاعرٍ أو صاحب قلمٍ سائرٍ فى ثورته، إذْ فى قيده لن تحصد سوى الجهل، وتعيش هى والمعرفة فى خصامٍ، لا تريد اعتماد الحقيقة عَلَمًا لها، وتريد فقط أن تمتلك الحقيقة عبر أذرعها من الكُتَّاب والصحفيين والإعلاميين، وهؤلاء وغيرهم يتحسَّسُون مُسدساتهم كلما سمعوا مُفردة التنوير، مثلما كان جوبلز (٢٩ من أكتوبر ١٨٩٧- 1 من مايو ١٩٤٥ميلادية) وزير إعلام هتلر (٢٠ من إبريل ١٨٨٩ميلادية- ٣٠ من إبريل ١٩٤٥ ميلادية) يتحسَّس مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة، والذى كان يُردِّد أينما كان: «اكذب حتى يصدقك الناس»، و«أعطنى إعلامًا بلا ضميــر أعطك شعبـًـا بـلا وعى»، وهذه الأذرع تكره الحقيقة، والتنوير الناتج عنها، بإشاعة الجهل، ومحاربة المعرفة بتبجُّحٍ لا نظير له، لأنها منذ البدء أدارت ظهورها إلى الحرية على المستويين الخاص والعام، وتفرَّغت لغسل الأدمغة، وتشويه وتحطيم الخصوم.

فإن لم يكن هناك تنويرٌ فسنبقى فى تخلُّفنا كثيرًا، بل سنتقهقر عما كنَّا فيه وما نحن عليه، ولن نستطيع بالتالى مواكبة الحضارة والحداثة فى العالم، وسنظل نناقش الهوامش تاركين المُتون، التى تحرسُها مؤسسات الدين والدولة، لأنها تعمل وفق منظومة: يوم لى ويوم لك، أو يومنا الواحد مقسومٌ على اثنين فقط، حتى إنه لا فُتات لأحدٍ غيرنا.

إذْ لابد من مُبارحة عوالم الجهل والدجل والشَّعوذة والخُرافة وتقديس البشر، سواء أكانوا سلفًا أم معاصرين لنا، وهذا لن يتأتَّى إلا بإعمال العقل والابتعاد عن عصبية العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، والانفتاح على ثقافة الآخر الذى بتنا نصفه بالكُفر، رغم أننا نستخدم حضارته آناء الليل وأطراف النهار، مع تطوير ثقافتنا وتقليب تُربتها وتعريضها لشمس سؤال العقل، وإعلاء العقل على النقل، لأن مفهوم الحقيقة لن يترسَّخ فى التربة الحاضنة إلا إذا كان العقل مُهيمنًا على ما سواه، ومن ثم يكون هناك حوار فكرى وثقافى وإبداعى بيننا وبين الآخر، الذى صار يبتعد بمكتسباته العلمية والثقافية بعيدًا عنَّا، بعد أن رآنا ننعم فى الجهالة التى تفرضها علينا حفنةٌ من المتشدِّدين، الذين يُشوِّهُون الدين والدنيا لدى العرب، وما رأيتُ خسائر طوال حياتى أكثر وأفدح من الخسائر التى مُنينا بها على يد الأهل والأقربين من اللغة نفسها والدين نفسه، الذين لم يعودوا أولى بالمعروف، بل أولى بالبتر والاستئصال، كى ينتصر العقل فى معركة الجهل هذه.

وإذا كان رفاعة الطهطاوى قد «أراد أن يوقظ أهل الإسلام، ويُدخِل عندهم الرغبة فى المعارف المفيدة، ويولِّد عندهم محبة تعلُّم التمدُّن الإفرنجى والترقِّى فى صنائع المعاش...» كما يقول أستاذه المستشرق الفرنسى كوسان دى برسفال (1172- 1251هـ / 1759- 1835م)، فنحن فى مسيس الحاجة الآن إلى ألف رفاعة الطهطاوى من طرازٍ جديدٍ، لنسير فى طريق العلم والحرية، بعيدًا عن الجهل والتسلُّط والتزمُّت والاستبداد والطغيان والحكم الفردى، كى تنهض الأمة من مرقدها الذى تحتلُّه الطائفة والخرافة، كأننا نحارب معركتنا القديمة من جديدٍ، حيث يخسر العرب ما كسبوا قبل خمسين عامًا أو يزيد.

وهل صار أقصى الأمانى أن نطالب بما طالب به رفاعة الطهطاوى (1216هـ /1801 م - 1290هـ /1873م) بعد عودته من باريس، وهو يُعلِّق على المادة الثامنة من الدستور الفرنسى، الخاصة بحرية الرأى والتعبير، حيث كشف عن إيمانه العميق بالحرية، إذْ يقول: «تُقوِّى كل إنسانٍ على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطُر بباله مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما فى نفس صاحبه»، فالدور المنوط بالمُنير حامل المصباح، الذى يجتهد ويقاوم ويتحدَّى، هو العمل على ترسيخ القيم الكبرى التى غابت أو غُيِّبت، رغم أن الألسنة تلوكها ليل نهار دون العمل بها أو تحقيقها، كالحق والعدل والمساواة والحرية والكرامة والتكافل الاجتماعى، وما نواجهه من مشكلاتٍ وعقباتٍ هو ما يحول دون تحقُّق هذه القيم الموجودة نظريًّا والغائبة أو الضائعة عمليًّا.

والنخبة المثقفة ليست مهمتها فقط قيادة الأمة نحو التنوير، ولكن عليها هدم وتقويض ما ترسَّخ فى أذهان الناس من أكاذيب وأضاليل، صارت من فرط تكرارها حقائق مقدَّسة لا ينبغى المساس بها، وألا تقف فى منتصف الطريق، بل هى مُلزمة بأن تكون واضحةً وحاسمةً وحادةً فى جدلها وحوارها، وأن تنحاز للنور لا للظلام، للإنسان لا للسلطان، إذ من المفترض أنها أُوتيت العقل والحكمة.

ahmad_shahawy@hotmail.com