حين تقول إن لديك رؤية للإصلاح وتقرر الترشح فى الانتخابات البرلمانية، فإن السؤال الذى يُطرح عليك: هل هناك جدوى من خوض هذه التجربة، فى ظل قانون انتخابات سيئ ومناخ إعلامى تحريضى؟ والحقيقة أن الإجابة كانت دائما لها شقان: شق يدعم قرار المشاركة، على اعتبار أن أى معركة سياسية فى صالح الديمقراطية والعدالة هى بالنقاط وليست بالضربة القاضية، وبالتالى المشاركة تُعتبر مفضلة، أما الشق الثانى فهو لا يؤيد قرار المشاركة، على اعتبار أن السياق العام الذى تجرى فى ظله الانتخابات لن يفرز إلا برلمانا باهتا منفصلا عن المجتمع.
والحقيقة أن حواراتى- قبل اتخاذ قرار الترشح فى الانتخابات الحالية- دارت مع قطاعات واسعة من الشباب ومن أعضاء حملتى القديمة (لانتخابات 2012 فى مواجهة مرشح الإخوان المسلمين)، حول جدوى المشاركة من عدمها، وكنت شخصيا، ولأول مرة، حائراً بين الخيارين (على عكس انتخابات 2012 حين كان القرار محسوما منذ اليوم الأول)، وتَفَهَّمت آراء المقاطعين دون أن أوافق عليها تماما، لأنى أعتبر نفسى من مدرسة الإصلاح التدريجى، وأن المشاركة يجب أن تُقاس على أساس نزاهة الصندوق، (وهو ما حدث)، أما الأجواء المحيطة من فساد بعض الإعلاميين أو شراء أصوات أو تجاوز بالملايين لسقف الدعاية المحدد، فهى كلها أمور يمكن مواجهتها بالمشاركة الإيجابية فى الانتخابات.
وعلى ما يبدو أن تقديرى فى قدرة أى مرشح على مواجهة الأجواء المحيطة بالعملية الانتخابية لم يكن دقيقا، وأن هناك استحالة أن يتقدم البلد خطوة واحدة للأمام إلا بحد أدنى من القيم والقواعد الدستورية والقانونية، التى تنظم كل شىء من إشارة المرور حتى العملية الانتخابية.
أما حالة الفوضى والعشوائية والاستباحة فهى وإن كانت تبدو مريحة لبعض مَن فى الحكم، باعتبارها طريقا لإحداث التوازن بين جماعات مصالح مختلفة، حتى تبقى الأوضاع على ما هى عليه، إلا أن هذا الوضع مستحيل أن يستمر فى ظل تحديات كبيرة فى الداخل والخارج، وفى ظل فشل هذه الطريقة المُدَوِّى فى نهايات حكم مبارك.
يقيناً، الاشتباك مع الواقع- مهما كانت مراراته ونتائجه- أفضل من الانسحاب، ويقينا أن قرار المشاركة فى العملية الانتخابية والسياسية يظل له بعد شخصى، فهناك مَن قاطع عن قناعة (وهو تيار كبير، وأغلبه من جمهور التيار المدنى)، وهناك مَن قاطع تغطية لضعفه وعجزه واستسهاله النضال الإلكترونى.
وتبقى نسبة المشاركة المنخفضة فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية دليلا على أن مشكلة البرلمان القادم الرئيسية ستكون فى مدى قدرته على التواصل مع هذا التيار الواسع الذى قاطع العملية الانتخابية، وهو تحدٍّ ليس بالسهل.
يقينا، سيكون البرلمان معبرا عن جانب من توجهات المجتمع فى هذه اللحظة، والذى يرتاب فى أى رؤية إصلاحية، باعتبارها قد تعطل المسيرة، وهو توجه غير دائم نتيجة عوامل كثيرة محيطة بنا فى الداخل والخارج، جعلت الحفاظ على الدولة- مهما كان أداؤها- هدفاً فى ذاته، بعد أن شاهد المواطن بأم عينه ما جرى فى بلدان عربية مجاورة.
النقاش حول المشاركة فى الانتخابات أو مقاطعتها كان ثريا، وسيظل قرار المشاركة هو الأقرب للصواب مادامت الدولة قد حافظت على نزاهة الصندوق، وهو مكسب كبير حققته ثورة 25 يناير بغياب التزوير وتسويد الكشوف داخل لجان الاقتراع، وبقيت مشكلة البيئة المحيطة بالانتخابات (شراء أصوات، دعاية تُجاوِز السقف المالى المحدد، تحريض الإعلام) لم تُعالَج بعد، وهى أمور من شانها أن تقضى على مصداقية العملية الانتخابية بأسرع مما يتصور الكثيرون.