الموقف الذى اتخذته الشركات المعلنة بوقف رعاية أحد البرامج التليفزيونية، نزولاً على إرادة المشاهدين، هو موقف يستحق الإشادة والتقدير، ويؤكد فى الوقت نفسه حقيقة مهمة، وهى قوة الإعلان، الذى قد يكون داعما للأخلاق، ناصراً للقيم ونشر الفضيلة، وقد يكون ناشرا للرذيلة، داعما للباطل، فى حال رعاية برامج بعينها أيضا.
هى عملية غاية فى الخطورة، حيث يمكن من خلال اتحاد ما بين هذه الشركات إجبار البرامج التليفزيونية، خصوصا (التوك شو) على الارتقاء بمستواها، مهنيا وأخلاقيا، وفى الوقت نفسه يمكن أن تكون هذه الشركات بمثابة لوبى ضاغط، أو إن شئت قُل مافيا، للسيطرة على الإعلام لتنفيذ خططها، والسير فى ركاب أصحابها، أياً كانت أهدافهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
الخيط إذن رفيع إلى الحد الذى يجعل من حق البعض الإصرار على وجود إعلام عام، ملكية الدولة الرسمية، من صحافة وإذاعة وتليفزيون، حتى وإن كان التطبيل والنفاق والعمل من خلال ولصالح نظام الحكم طوال الوقت هو طابعه المتعارف عليه، حيث يمكن علاج هذه الآفة شيئا فشيئا، حين يجد أن القارئ أو المشاهد ينصرف عنه، إلى حين إصلاح ذلك الطرح فى التناول لصالح المواطن بالدرجة الأولى.
نحن إذن أمام قضية على قدر كبير من الخطورة، وهى قضية تشكيل العقل، تربية النشء، توجيه حركة الشارع، شحن المجتمع تجاه قضية ما، بل تجاه جميع القضايا، هناك دائما من يرددون أن الوسيلة الإعلامية الخاصة قد تكون، ونحن لا ندرى، ملكاً لدولة معادية، وقد تعمل من خلال أحد الأجهزة الاستخباراتية، وقد تكون من تمويل منظمة ذات أهداف أيديولوجية، أو شخص له مآربه السياسية أو الأمنية، وقد يكون هذا الشخص مواطنا أو أجنبيا، إذن النتيجة واحدة، نحن أمام كارثة، من حق الدولة الرسمية أن تراقب الموقف طوال الوقت، وأن تتخذ ما تراه مناسبا حين الإحساس بالخطر.
رغم كل ذلك، من حقنا أن نعول على رأس المال الوطنى، أو على الوطنيين من أصحاب رؤوس الأموال، من خلال وسائل الإعلام التى يمتلكونها، فى تبنى سياسات تهدف بالدرجة الأولى إلى بناء مجتمع سَوِى، ونشر ثقافة الفضيلة، والحرص على مصلحة الوطن والمواطن، دون التشكيك فى نوايا أى منهم، حتى يثبت العكس، وإن كان ذلك العكس بوضوح الشمس الآن فى عدد من القنوات الفضائية، إلا أن الغيبوبة التى عاشتها الدولة قبل ٢٥ يناير ٢٠١١، تلقى بظلالها الآن.
السؤال الذى يجب أن يطرح نفسه بقوة هو: لماذا انصرف الناس عن إعلام الدولة الرسمى إلى ذلك الإعلام الخاص؟ كان يجب أن يكون هذا السؤال هو الشغل الشاغل للقائمين على الإعلام الرسمى على مدار الساعة، حتى يمكن الوقوف على الأسباب، ومن ثم الإصلاح، وقد نكون وقفنا على الأسباب إلا أننا نأبى الإصلاح، وأهمها أن نسبة ٣٠٪ من المادة الخبرية على الأقل لا يريد الإعلام الرسمى التعامل معها خوفا من غضب النظام، إضافة إلى أن طريقة التعامل مع نحو ٣٠٪ أخرى لا تراعى مصلحة المواطن، أيضا لحساب النظام، ناهيك عن أن المقالات أو صفحات الرأى تراجعت فى الصحف الرسمية عنها فى الصحف المستقلة، فقد ضاقت الرسمية بالرأى الآخر، فى الوقت الذى رفعت فيه المستقلة من سقف التعبير، وعلى الرغم من ذلك لا يوجد فى الأفق حتى الآن ما يشير إلى بوادر تغيير رسمى، بهدف الإنقاذ.
إلا أن ما تجدر الإشارة إليه على الجانب الآخر هو أن لوبى الإعلانات، ممثلا هذه المرة فى الشركات العاملة فى هذا المجال، وهى الشركات المحتكرة، أصبح يتعمد التضييق على هذه الصحيفة أو تلك القناة، لحساب أخرى هنا وهناك، أو فى إطار مخطط لإسقاط هذه أو تلك، مما جعل بعض القنوات والصحف فى حالة أزمة مالية دائمة، العاملون بها لا يتقاضون رواتبهم على مدى عدة أشهر، البعض تم إغلاقه، والبعض الآخر مهدد بالإغلاق، وهو ما يجعل من هذه الشركات المحتكرة فى حد ذاتها مافيا ضاغطة على صناعة الإعلام طوال الوقت، لحساب مافيا أكثر خطورة، قد لا تمت بصلة للوطنية ولا للأخلاق من قريب أو بعيد.
أعلم أن هناك تقارير مهمة فى هذا الشأن، صادرة عن هيئة الرقابة الإدارية، تتحدث باستفاضة عن هذه الكارثة، وتؤكد، فى الوقت نفسه، أن السيطرة هنا ليست مصرية، بقدر ما هى خارجية، شركات عربية وغربية، وأموال عربية وأجنبية، ومخططات جميعها خارجية هى التى تستحوذ وتتحكم فى توزيع الإعلانات فى مصر على كل وسائل الإعلام تقريباً، ورغم الجهود الكبيرة التى بذلها أعضاء الرقابة الإدارية فى جمع المعلومات التى تضمنتها هذه التقارير، إلا أنها لم تأخذ حقها من الاهتمام، لسبب أو لآخر.
ربما كانت قضية المذيعة التى نحن بصددها الآن، وموقف الشركات الراعية لبرنامجها، محفّزا لفتح هذا الملف، الذى قد يكون الأكثر خطورة بين الملفات المسكوت عنها، نتيجة ذلك الخيط الرفيع المشار إليه.