رأيته فى باريس يتألم!

سليمان جودة السبت 31-10-2015 21:20

أحسست وأنا أتمشى حول المسلة المصرية فى قلب باريس أن سيد ياسين، رائد صناعة الزجاج فيما قبل ثورة يوليو 1952، يتقلّب ألماً فى قبره، بعد أن كان قد مات مرتين: مرة يوم أن أمّموا مصانعه، فقضوا عليها وعليه، ومرة يوم أن مات ورحل فى أسف!

كنت أتفرج حول المسلة على معرض أقامته شركة فرنسية عالمية، وكان المعرض قد أقيم لسببين، أولهما أن الشركة كانت تعرض أحدث أفكارها فى صناعة الزجاج العازل للحرارة والموفر للطاقة، والثانى أنها كانت تعرض ذلك كله على جمهور الشانزليزيه وغير جمهور الشانزليزيه، بمناسبة مرور 350 سنة على نشأتها!

فما المعنى؟!.. المعنى أن هذه الشركة ظلت على مدى ثلاثة قرون ونصف القرن، تراكم عملها بعضه فوق بعض، وراحت تتوسع حتى صارت لها أعمال كبيرة فى دول عدة حول العالم، منها مصر نفسها.. أما سيد ياسين، عاشق الزجاج، فلقد جاء قرار التأميم ليقطع طريقاً كان الرجل قد بدأه قبل الثورة، وكان من الوارد جداً أن تكون مصانعه الآن هى المنافس الأقوى للشركة الفرنسية، فى المنطقة كلها، وفى خارج المنطقة!

وفيما قبل 25 يناير 2011، كان الدكتور محمود محيى الدين، وزير الاستثمار وقتها، قد تبنى فكرة عظيمة لإصدار عدة كتب عن رواد الاستثمار فى بلدنا، فيما قبل يوليو 52، وكان أن أصدر أكثر من كتاب، عن طلعت حرب مرة، وعن عبود باشا، وعبداللطيف أبورجيلة، وسيد جلال، وفرغلى باشا، وآسيا داغر، وفاطمة اليوسف، ثم سيد ياسين، مرات!

وكان الأستاذ مصطفى بيومى هو الذى وضع كتاب سيد ياسين مع كتب أخرى فى السلسلة، ومنها عرف القراء فى ذلك الوقت الكثير جداً عن «ياسين»، وكيف أن الوطنية عنده كصاحب أعمال كانت تعنى ثلاثة أشياء لا رابع لها: الإنتاج، وإتاحة فرص العمل لأبناء بلده، ثم دعم استقلال اقتصاد بلاده بكل قوة.

ولم يكن عاشق الزجاج يقول هذا الكلام وفقط، ولكنه كان يطبقه على الأرض، أولاً بأول، وكان التطبيق من جانبه يتجلى أكثر ما يتجلى فى مصانع الزجاج، وفى مشروع عظيم للنقل الداخلى فى القاهرة، من قَبْل، وهو مشروع يحتاج إلى كلام كثير فى سياق آخر.

كنت أدور حول المسلة وحول المعرض المتناثر حولها، وأسأل نفسى: أين سيد ياسين، وأين مصانعه التى لما أخذوها منه رفعوا اسمه من فوقها، وخصصوا له ثلاثين جنيهاً مصروفات فى كل شهر؟!

كنت أدور حول المسلة وحول المعرض وأقول فى نفسى، لو عاش ياسين لكان قد سبق الفرنسيين، ولكان قد أضاف إلى ريادته فى صناعته، خطوات وخطوات، ولكن المشكلة أنه عاش يرى مصانعه تسقط أمام عينيه، طوبة وراء طوبة، ولا يستطيع إنقاذها، فمات وهو فى منطقة بين القهر والعجز!

رحمة الله على الرجل العظيم، ولعنة الله على الذين قطعوا مسيرة له كان فى إمكاننا الآن أن نفاخر بها ونزهو بين الفرنسيين وغير الفرنسيين!

وإذا كان لكل صاحب أعمال، فى أيامنا هذه، أن يأخذ من هذه السطور شيئاً، فليأخذ منها معنى الوطنية عند سيد ياسين.. فما أعظم معناها عنده، وما أحوجنا إلى أن نأخذ به ونعمل على هداه!