بملء فم الدولة!

سليمان جودة الخميس 29-10-2015 21:37

كنت طوال أسبوع فى باريس أبحث عن امرأة ترتدى النقاب، فلا أجد، وكنت أتلفتُ حولى، فى كل شارع، وفى كل مكان عام، فلا أعثر على امرأة من هذا النوع، وكنت أفعل هذا لأنى أعرف أن السلطات هناك قررت، فى مثل هذا الشهر من عام 2010، منع النقاب تماماً فى أى مكان عام!

ولا يستطيع أحد أن يقول إن فرنسا وهى تمنع النقاب، فى أماكنها العامة كلها، قبل سنوات خمس، كانت ضد الحرية الشخصية لأى سيدة تريد أن ترتديه.. لا يستطيع أحد أن يقول بذلك أبداً، لأن فرنسا هى بلد الحريات فى العالم بلا منازع، ولأن الإنسان.. أى إنسان.. لا يجد نفسه حراً، فى أى بلد، بامتداد العالم كله، كما يجد ذلك فى باريس.. ففيها تستطيع أن تفعل أى شىء، وأن تتصرف بكامل حريتك، وأن تتحرك على نحو ما تحب، إلا أن تخرق قانوناً، أو تصادر على حرية الآخرين.. فهنا سوف تجد الدولة كلها فى انتظارك، لتمنعك، ولتعاقبك معاً، ودون جدال!

من خمس سنوات رأوا هناك أن ارتداء النقاب فى أى مكان عام نوع من العبث لا يجب السماح به، فمنعوه على الفور، وقرروا غرامة مقدارها 150 يورو، على كل سيدة لا تلتزم بما تقرر، والمعنى أن أى واحدة يتم ضبطها وهى ترتديه فى أى مكان عام فإنها تدفع ما قيمته 1500 جنيه مصرى تقريباً فى الحال!

وكنت قبل السفر قد تابعت معركة الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، عندما قرر منع أى عضو هيئة تدريس منتقبة من دخول قاعة المحاضرات، وكان معه الحق كله، وقد دعمته فى قراره بكل قوة، وطالبت الدولة بأن تقف معه، وأن تدعمه، وألا تتركه يحارب معركته وحده، وهو ما لم يحدث، والحمد لله أنها لم تخذله بالطريقة التى خذلت بها الدكتور الهلالى الشربينى، وزير التربية والتعليم، فى قرار درجات السلوك العشر فى المدارس، وهو ما أصاب الوزير، فى ظنى، بخيبة أمل!

كنت ولا أزال أريد دولة قوية، من نوع الدولة فى فرنسا، التى لما أرادت منع النقاب، لأنه ضد كل اعتبارات الأمن، ولأنه ضد كل عقل، فإنها لم تدفع عمدة باريس، مثلاً، ليصدر القرار هو، ولتتخفى هى وراءه، ولكنها أصدرته هى، وتحملت عواقب إصداره بشجاعة هى، وتصدت لكل سيدة مخالفة، هى، وتصرفت فى الأحوال كلها كدولة مسؤولة هى!.. دولة لا تفرط فى أمن المجموع إزاء تطرف الفرد فى ممارسة حريته!

كنت أتوقع أن تقول الدولة، بملء فمها، إن النقاب ليس ممنوعاً فى قاعات جامعة القاهرة فقط، بل فى هذه الجامعة الأم، وسائر الجامعات كلها معها، وإن ذلك سوف يكون داخل القاعات وخارجها، ثم فى كل الأماكن العامة دون استثناء، وإن أى مخالفة سوف يكون عقابها كذا، وإنه لا فصال فى الموضوع، لاعتبارات أمنية خالصة، لأن ضابط المرور، مثلاً، لا يدرى عندما يجد نفسه أمام سيارة تقودها امرأة على رأسها نقاب، ما إذا كانت التى أمامه سيدة فعلاً أم أنها إرهابى يتخفى تحت النقاب.. لا يدرى ومن واجبه أن يتحقق.. ولكن كيف؟!

كنت أتوقع هذا، وأنتظره، ولا أزال، لأنه هكذا بالضبط تتصرف الدول التى تريد مكاناً، ثم مكانة، بين الأمم!