الفتى بدران (حواديت العباسيين-9)

جمال الجمل الأربعاء 28-10-2015 00:53

(1)

ديوني لكم كثيرة، ربما لأن أحلامي كبيرة.. أكبر مما أستطيع أن أحققه وحدي، وربما لأن وعودي تنطلق من الأمنيات ولا ترتهن بالإمكانات.

اختتم مقالات كثيرة بوعد «غدا أفعل كذا...»، ويأتي الغد فلا تجدون ما وعدت به.

* ربما تنسون، أما أنا فلا أنسى، لكن الغد عندي لا يعني بالضرورة «اليوم التالي»، بل يعني «وقت ما ملائم في المستقبل».

(أدندن الآن بأغنية ياطالع الشجره: هات لي معاك بكره.. العدل في يمينه. والشمس في جبينه)

* ربما تنصرفون مثلي إلى الوقائع الجديدة الأكثر سخونة، فمضخات الأخبار تغرق عقولنا وتسرق تركيزنا، وتجرنا خلف حصان «النيوز» لاحول لنا ولا قوة.

(أتذكر الآن بطريقة لا إرادية مشهد محمد أبوسويلم في نهاية فيلم «الأرض»)

* و... ربما تنتظرون وفاء الوعد.

(من حقي أن أغني الآن بأمل: لساها قصيرة اليد.. لكني قد الوعد)

(2)

شغلتني قضايا كثيرة خلال الأيام القليلة الماضية: ماحدث في الاسكندرية، وردود الأفعال التقليدية التي اعتادناها في كل كارثة، تكرار مشهد شتات المصريين في الغربة بعد الاتجاه لطرد مصريين من الكويت بسبب مشاجرة مع مواطن من الدرجة الأولى، العذاب الوجودي الذي تعيشه فيفي عبده لعجزها عن حل المعضلة الفقهية: الرقص حلال أم حرام، بالإضافة إلى القضايا المزمنة التي صارت «صاحبة بيت» بعد الإقامة الدائمة والعشرة الطويلة!

مع ذلك قررت برغم التشتت والمزاج العكر، أن أقضي بعضا من ديوني، وأفي بوعد الكتابة عن حدوتة الشاب محمد بدران.

(3)

بدران شاب مصري طموح من أبناء الطبقة المتوسطة، والده موظف بكلية التجارة جامعة بنها التي التحق بها محمد، وترشح لاتحاد الطلاب، وشق طريقه حتى صار رئيسا لاتحاد طلاب مصر، لم يخرج بدران عن الخط الرسمي كما فعل رؤساء اتحاد سابقون، لكنه ظل يلعب الدور المرسوم له حسب اللائحة التي نزعت السياسة من الجامعات، وساهمت في تجريف وعي الطلاب بقضايا الوطن، وحسب نصائح الوالد (حزب وطني)، وتحت رعاية حانية من الدكتور على شمس الدين رئيس الجامعة، وبالمناسبة لست ممن يرددون الأقاويل الشائعة عن علاقة بدران بأجهزة امنية، لكني أسميها «تنسيق مطلوب» مالم تكن للأمن سيطرة على قرارات الطلاب، ومالم يكن بدران أداة في يد أحد.

(4)

أحب النجاح، وتعجبني قصص الطموح، لذلك لفت نظري أداء حزب جديد باسم «مستقبل وطن» قدم للانتخابات البرلمانية الأخيرة قرابة 200 مرشح (185 فردي + 8 قائمة)، وهذه ليست المعجزة، المعجزة ان الحزب الناشئ حصل على ربع عدد الناجحين في المرحلة الأولى (1 من 4) كما خاض الإعادة على 48 مقعداً!

لم أكن قد شاهدت صورة بدران مع الرئيس السيسي في افتتاح قناة السويس باعتباره ممثلا للشباب، فأنا لم أحضر الحفل، ولا أتابع الاحتفالات البروتوكولية عادة، ولا تهمني القصص الجانبية لمن حضر ومن لم يحضر، لكن صعود اسم الحزب اثناء الإعداد للانتخابات أدهشني، وحرضني على السؤال:

ماهي قصة هذا الحزب؟، ومن يدفع للزمار؟

كان الكلام كثيرا عن مؤسس الحزب ورئيسه، حتى في دوائر مراكز الأبحاث الأمريكية والغربية التي ربط بين الحزب وبين اتجاه أجهزة سيادية في مصر لدعم هذا الحزب ليكون ظهيرا سياسيا لنظام الحكم.

لماذا محمد بدران؟ ولماذا حزبه؟

كانت الإجابات الجاهزة تقول: لأنه حزب شبابي.. أول حزب شبابي في مصر، وحسب تصريح للعباسي اللامع «سيف الغزل»: إنه حزب الشباب الوحيد بين أكثر من 100 حزب!

بدران إذن دخل لجنة الخمسين لصياغة الدستور «لأنه شاب»، ووقف إلى جوار الرئيس في افتتاح القناة «لأنه شاب»، وحصل حزبه الناشئ على دعم ضخم من رجال أعمال عباسيين «لأنه شاب»، وحقق مالم تحققه الأحزاب العتيقة والجديدة «لأنه شاب»..!

انجازات تبشر بالأمل وتشير إلى مسعى الدولة لتمكين الشباب، لكن أليس أحمد عبدالرحمن شابا؟، أليس أحمد دومة «شابا»؟، ومحمد الجندي «ألم يكن شابا»؟، وحسن حظاظة سائق التوك توك؟، وعبده سكينة بائع الأعلام العاطل الآن؟، والمتحرشون بالفتيات في العيد، وباعة الأرصفة، والخريجون اليائسون، والمهمشون، وأولادنا جميعا.. أليسوا شبابا؟!

كيف لشاب فقير لا يملك ثروة ولا سلطة أن يؤسس حزبا في نوفمبر الماضي، وقبل أن يكمل عامه الأول يمتلك 90 مقرا له في كل المحافظات والمدن الكبرى، و«يقش» الكبار والصغار؟، ولماذا يتبارى في تمويله رجال أعمال من عينة أحمد أبوهشيمة، ومنصور عامر، وكامل أبوعلى، وهانى أبوريدة؟، وكيف حصل بهذه السهولة المدهشة على دعم قبائل وعائلات كبيرة مثل الغنيمى في الإسكندرية، والمغربى في القليوبية، والقرشى في أسيوط، والأشراف في قنا؟

ألا يحتاج هذا إلى سنوات طويلة من العمل والترتيبات التنظيمية والإنفاق الباهظ؟

المنطق يقول ذلك، إلا إذا كانت الترتيبات جاهزة، والعملية ليست إلا نقل «تركة ضخمة» تركها «المرحوم»، ولما كان ثراؤه مشبوها، فكان لابد من غسل التركة بأسلوب احترافي والاستعانة بصبي من غير المسجلين.!

(5)

اعتبروا أسئلتي نوعا من التسرع، أو «النفسنة» تجاه شاب وسيم ناجح يصعد بسرعة الضوء، بينما الوطن كله يزحف مثل سلحفاة كسولة، لكن اسمحوا لي بأن أعرض عليكم المؤهلات السياسية لهذا الشاب، لنتعرف على أسباب نجاحه المفاجئ:

بدران نموذج للشاب العباسي الصالح، فهو آه هو لا!، هو مع السيسي في حملته، لكنه ليس «بتاع السيسي»، هو ليس مع تعديل الدستور، وليس ضد تعديل الدستور، هو شبابي لكنه يزكي عمرو موسى لرئاسة البرلمان!

طيب عمرو موسى لم يترشح، وهذا يعني أن مؤسس حزب الشباب الوحيد يمارس الديموقراطية، ثم يقترح ويبارك أن يضع على رأس النواب المنتخبين «ديموقراطيا» رئيسا بالتعيين، والعجيب أن سمات الاستقلالية التي يتمتع بها الشباب تذوب عند بدران، فيقبل التمويل الجاهز من الوجوه التقليدية لنظام العواجيز، بل ويعترف بنفسه بالاعتماد على الدعم القبلي والعائلي في الانتخابات، ويعلن اسماء رجال الأعمال الذين يمولونه دون أن يقدم أي تبرير لدوافع هذا التمويل!

والمؤسف جدا أن بدران عندما سئل عن فرصة الشباب في البرلمان المقبل، قال بصراحة صادمة «إنها معدومة»، مؤكدا أن «العملية الانتخابية لم تتغير، فمازال يحكمها رأس المال والقبليات والمصالح، والرشاوى الانتخابية، ومن الصعب أن يحظى شاب بالفوز أو الترشح وتحمل نفقته الدعائية»

هذا رأي بدر، فكيف اخترق هو وحزبه كل هذه المحظورات التي تعوق الشباب (أليس منهم؟)

(6)

السيسي في أول حوار رسمي له كمرشح رئاسي مع الزميلين ابراهيم عيسى ولميس الحديدي، كشف عن النقاط الرئيسية في تفكيره، ومنها تنظيم الإعلام والعمل الحزبي حسب خطة للدمج والتقليص، لضمان نوع من السيطرة المركزية، بما يخدم التوجه الرئيسي للدولة في مرحلة البناء، وهي فكرة لا يتيح الواقع الدولي (قبل المحلي) تمريرها بوسائل علنية، لذلك يجب تمريرها بالوسائل التحتية، ومنها تكسير الفخار بعضه لبعضه، وهي الرؤية التي انتقلت (بالصدفة البحتة) من عقل الدولة المتصلبة إلى عقل الشاب النموذج، فهو يقول في حوار له قبل ايام: لا توجد حياة سياسية في مصر، وهذه الانتخابات البرلمانية هي الفرصة الأولى للأحزاب، لأنه لايوجد لدينا حزب حاكم، ويجب على الأحزاب التي لن تحصل على مقاعد أن تحترم نفسها وتقوم بإلغاء نفسها أو الاندماج مع أحزاب أخرى.

وصلت يا أبوالشباب

(6)

الشاب العباسي الصاعد يخبرنا بشفافية لا يخجل منها أن نواب البرلمان المقبل مهمتهم الوطنية الأولى هي رفع يدهم بالموافقة على جميع القوانين التي أصدرها الرئيس، وإذا لم يحدث ذلك ستنهار الدولة، وترجع للخلف!

لا تخشى من الانهيار يا بدران، لأنك تتحدث من تحت الأنقاض، فالعباسيون يا ولدي خربوها، ولم يفكروا بعد في البناء، ففي «الخرابة» منافع كثيرة، لعلك تعرفت على بعضها.

.............................................................................................................

غدا نواصل «حواديت العباسيين»

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com