نقلت وسائل الإعلام باحتفاء وفخر، أخبار تدخل القوات المسلحة لانتشال الإسكندرية من ورطتها.
وتبارت الصحف في نقل تقارير مساعدة الجيش لـ«الحكومة»، وفي بث أخبار تسيير قوافل الإعانات للشعب السكندري الشقيق، وكأن الجيش المصري هو جيش دولة صديقة، أو كأنه ليس جزءًا من تركيبة الدولة المصرية أو الشعب المصري نفسه بالأحرى!
هذا الفصل (بين الجيش والحكومة) الذي تم، على مستوى اللغة، للإيحاء –أو للتأكيد- بأن الجيش مؤسسة بذاتها، مستقلة ونائية عن جزر الحكومة المضطربة وأجهزتها الفاشلة الفاسدة، هو فصلٌ متسرع وأخرق من حيث درى القائمون عليه أم لم يدروا.
وهو امتداد للغة غير موفقة، إلا إذا كان من ورائها قصد ما في نفس مستخدمها.
وهو ما تبدى أول ما تبدى في تصريحات المجلس العسكري في مقتبل ديسمبر 2011 حين قال اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع آنذاك بأن «القوات المسلحة أقرضت البنك المركزي مليار دولار من عائد مشروعاتها الإنتاجية».
وكأن المؤسسة العسكرية كيان منفصل عن الدولة ويتحرك بمعزل عنها، ويقرضها إذا استدعت الضرورة!
وكل هذا يضعنا أول ما يضعنا أمام ثلاثة أسئلة محرجة..
أولا: هل الجيش مستقل ماليا لدرجة إقراض الحكومة وإعانتها في عثراتها المالية والتنفيذية إذا لزم الأمر؟
ثانيا: هل ينظر الجيش لنفسه كجزيرة نائية عن أجهزة الدولة؟
ثالثا: ماهو شكل العلاقة المفترضة بين الطرفين؟
(2)
سادت في الكتابات الغربية عن الجيش في الفترة التي أعقبت ثورة يناير نظريتان بخصوص اقتصاد المؤسسة العسكرية.
الأولى ترى أن الجيش في فترة بعينها أحس أن نظام مبارك لو استمر في السير قدمًا في خطواته، فإن البلد ستكون عرضة للهلاك، ومن ثم قرر جنرالات وطنيون خلق ظهير اقتصادي ومالي للبلد، بمعزل عن تخبط مبارك والسياسات الاقتصادية المسعورة التي كان يقودها نجله المشؤوم وشلته التعيسة.
ووفق هذا السيناريو فقد كانت بذور النشاط الاقتصادي للجيش تسمح له أن يتوسع في مخططه مدعوما بامتيازاته الواسعة وبقدرته على حسم أي ملف في البلد لصالح وجهة نظره.
أما السيناريو الثاني الذي اقترحته كتابات غربية أخرى، فلا يبحث في أسباب نشأة اقتصاد الجيش بمقدار ما يرى أن مسار اقتصاد الجيش تلاقى مع جشع قيادات عسكرية، تحولت مع الوقت إلى زمرة منافسة لشلة جمال مبارك ومعتنقي الاقتصاد النيوليبرال.
ومن ثم- وفقا لهذا السيناريو- فقد تحول الجيش إلى لاعب منافس، يحسم بعض الصفقات العالقة بأكتاف خشنة لصالح نفسه.
بصورة شخصية أميل إلى اعتناق السيناريو الأول، ولا أستبعد أن يكون السيناريو الثاني ممثلا لفترة من الفترات أو عاكسا لسلوك بعض القيادات التي تم ركلها خارج صفوف المؤسسة، وفقا لأحاديث متواترة.
لكن هل لهم خلفاء فاسدون؟ وهل تسيطر هذه النظرة النفعية على وجهة نظرهم؟
الله بمفرده يعلم.. ومن بعده الأجهزة الرقابية داخل المؤسسة العسكرية!
(3)
هل ينظر الجيش لنفسه كجزيرة نائية عن أجهزة الدولة؟
أظن أن القوات المسلحة تعتز بنفسها وتنظر بشيء من الإزدراء للجهاز الحكومي الفاسد المترهل منذ عقود، وهو ما يجدى له صدى مثيلا في الشارع من الاعتزاز بما ينجزه الجيش من مشاريع عامة، عادة ما تكون متقنة وسريعة الإنجاز، مقارنة بالعك الحكومي المعهود.
لكن هل يؤسس كل هذا لأن تكون علاقة الجيش بالحكومة أنه المنقذ المنتظر الذي يتدخل في اللحظات الحرجة فحسب لكي يتدارك أخطاء الجميع على مدار عقود؟ ثم يعود مرة أخرى إلى ثكناته وسط تصفيق الجماهير الحار له كما لو كان ينقذ حكومة دولة شقيقة لا الحكومة نفسها التي يؤدي وزير الدفاع أمام رئيسها القسم الوزاري؟!
(4)
في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي طرحت الأسئلة نفسها بقوة حيال مستقبل الجيش الأمريكي العملاق ضخم التسليح فائق القدرات.. ففيم يمكن الاستفادة من هذا الوحش بعد انكسار خصمه اللدود؟
وكان التقدير العام أن الجيش قد يتم الاستعانة به في الشؤون الداخلية في أوقات الكوارث الكبرى ولمحاربة عصابات الجريمة المنظمة، وأحيانا لتقديم الإعانات المالية من فائض مكاسبه!
غير أن هذا كله ينبغي أن يتم على أنه استثناء يؤكد على قاعدة انشغال الجيش بشؤون الأمن القومي والدفاع عن الولايات المتحدة عموما، فيما تم الاصطلاح على بنوده ومحدداته فيما بعد على أنه «عقيدة باول»، في إشارة لكولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة حينئذ.
وبمد خطوط الاستفادة من تجارب الآخرين، سنجد أن اضطلاع الجيوش بمسائل داخلية في بلدانها ليس بدعًا من الأمر، كي يصور كارهو الجيش سلوكه كما لو كان هيمنة وبسط نفوذ وإرسال إشارات تفيد بإخضاع الدولة كلها تحت يد المؤسسة العسكرية..
كما أنه وعلى النقيض ليس تكرما وتعطفا وإنسانية ورأفة من «الجيش»!
الجيش المصري هو جيش مصر، جزء من أزماتها وحلولها، ونسيجه وطني يمثل كافة شرائح المجتمع المصري. وحين نتلقف تدخله في الشأن العام (في غير مسائل السياسة الصريحة) على أنه استعراض مقصود أو رأفة محمودة، فإننا نباعده عن حقيقته ككيان وطني، ونضره كثيرًا، وندفعه دفعًا إلى حيث لا ينبغي أن يقف وفقا لأي الاحتمالين.
فإفساد المؤسسات، بمدح أو قدح في غير موضعه.