عندما شن الطيران الإسرائيلى غاراته المفاجئة والشاملة ظهيرة يوم السبت السابع والعشرين من ديسمبر الماضى (2008) على قطاع غزة، لم يكن فى تصور الكثيرين (ربما بمن فيهم الفلسطينيون بل قادة حماس أنفسهم!) أنها البداية لحرب طويلة: شاملة ومدمرة ووحشية! إنها -بعبارة أخرى- الجولة أو الحرب السابعة، فى سلسلة الحروب العربية - الإسرائيلية الكبرى (حروب 48 و56 و67 و73 و82: غزو لبنان و2006: الحرب ضد حزب الله)،
غير أنها أيضا الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الأولى، فهى -فى الحقيقة- أول مواجهة عسكرية شاملة بين إسرائيل وطرف مباشر فلسطينى فقط، وفوق أرض فلسطينية فقط، وهو ما يضفى عليها مغزى سياسيا لا يمكن تجاهله.
الآن، وبعد أن تم وقف إطلاق النار منذ فجر يوم 18 يناير الماضى، فإن من المنطقى، بل من الحتمى والضرورى تماما، أن نراجع -بأقصى قدر من الأمانة والموضوعية- ما تم فى تلك الحرب، وأن نستخلص دروسها وعبرها،
وسوف يكون مهما للغاية أن نسمع مثلا أن السلطات المعنية فى البلاد العربية (خاصة تلك المتصلة مباشرة بما جرى)، وفى السلطة الفلسطينية وحماس، قد كلفت أجهزة أو لجاناً معينة بدراسة مجريات وآثار تلك الحرب، وتخضع أداءها للتقييم العلمى والموضوعى، لتستخلص دروسه وعظاته. وعلى أى حال، فإنه من المؤكد أن مثل هذه العملية تجرى الآن فى إسرائيل بشكل أو بآخر.. فهكذا عودونا فى جميع حروبهم ومعاركهم السابقة.
إن الانطباع الأقوى الذى تولد لدىّ، من متابعة هذه الجولة من الحروب العربية - الإسرائيلية، ومتابعة ما كتب عنها من تحليلات، هو أنها كانت -بشكل عام- حربا خسرها الجميع، سواء الطرفان المباشران (حماس وإسرائيل) أو الأطراف الأخرى العربية والدولية. وسوف أتناول فى هذا المقال الخسارة الإسرائيلية.
* فشل عسكرى
إن نجاح أى حرب يرتبط بتحقيق أهدافها. فماذا كان هدف إسرائيل من تلك الحرب؟ هذا الهدف كان -كما أعلنته إسرائيل مرارا- هو منع إطلاق الصواريخ على الأراضى الإسرائيلية. ومع بدء العمليات، قال إيهود أولمرت إن هدفها هو «إعادة الحياة الطبيعية والهدوء إلى سكان جنوب إسرائيل». وقالت ليفنى فى مقابلة مع محطة «فوكس نيوز» إن العملية تستهدف «تغيير الحقائق على الأرض، وتوفير السلم والهدوء للمواطنين فى جنوب إسرائيل».
لقد انطوى هذا التحديد لهدف الحرب على مهمتين، الأولى: عسكرية وهى الضرب المباشر لمخزون الصواريخ لدى حماس، وتدمير ورش تصنيعها، أو مسالك تهريبها، وكذا تدمير مواقع إطلاقها. أما المهمة الثانية، فهى «سياسية» تستهدف حماس كمنظمة وكسلطة .. فهل حققت إسرائيل هذين الهدفين؟
الأغلب أن إسرائيل استطاعت تدمير مخازن للصواريخ، وورش لتصنيعها، وأنفاق لتهريبها.. وأنها استخدمت فى ذلك معدات عسكرية وتكنولوجية فائقة التقدم، كما استهدفت إسرائيل قتل أكبر عدد من جنود وكوادر حماس. غير أنه من المؤكد أنه ليس بإمكان أى قائد إسرائيلى، بل ولا أى محلل عسكرى فى العالم، أن يقول إن إسرائيل قد حققت نصرا عسكريا بالمعنى الدقيق للكلمة!
وليس فى هذا الاستنتاج أى مبالغة. فلم يحدث أبدا، فى أى مواجهة من هذا النوع -بدءا من حرب فيتنام، وحتى حرب الجزائر، ومرورا بحروب التحرير والحروب الشعبية العديدة فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التى انطوت على مواجهة بين جيوش نظامية، وقوات مقاومة غير نظامية- أن استطاعت تلك الأولى أن تهزم الثانية.
وليست المواجهة فى فلسطين استثناء من تلك القاعدة! لذا فمن المؤكد أنه لا يزال فى إمكان حماس تهريب صواريخ، وتصنيع صواريخ، وإطلاق صواريخ.
*سيناريوهان
إن هذا ينقلنا إلى الهدف الثانى -السياسى- والأكثر أهمية، والمتعلق بحماس. فماذا أرادت إسرائيل بالضبط؟ قال الإسرائيليون عبارات عامة مثل معاقبة حماس والقضاء على حماس... إلخ، ولذلك لم يكن غريبا أن كانت أهداف إسرائيل من الحرب ضد حماس موضعا لمناقشات وتحليلات مهمة فى الصحافة العالمية.
وفى معرض الإجابة عن التساؤل حول أهداف إسرائيل إزاء حماس من حربها فى غزة، ساد الحديث عن سيناريوهين، الأول هو سيناريو تدمير حماس، والقضاء النهائى عليها، أى أن يستهدف الجيش الإسرائيلى، بشكل دقيق ومباشر، جميع قيادات حماس، وكوادرها، وكذلك مؤسساتها وبنيتها التنظيمية، بحيث يتم -ماديا وسياسيا- استئصال حماس من غزة تماما.
أما السيناريو الثانى، فهو أن يتم استهداف حماس فى إطار استهداف المؤسسات الفلسطينية والمواطنين الفلسطينيين، إلى الدرجة التى تجعل سكان غزة أنفسهم -بعد أن تنتهى الحرب- يمنعون حماس من العودة إلى إطلاق الصواريخ على إسرائيل، خوفا من تعرضهم مرة ثانية للأهوال التى شهدوها فى أثناء الحرب.
هذا السيناريو أطلق عليه اسم السيناريو اللبنانى، نسبة إلى الاستراتيجية التى اتبعتها إسرائيل فى حربها ضد حزب الله فى لبنان عام 2006. ووفقا لذلك السيناريو، فإن إسرائيل استهدفت -عمدا- ليس فقط ضرب قوات ومنشآت حزب الله فى لبنان، وإنما آلاف الأهداف اللبنانية العادية المجاورة أو القريبة من مواقع ومؤسسات حزب الله، بما فى ذلك قتل مئات الأبرياء وتدمير آلاف المنشآت اللبنانية، قبل أن يتم التوصل إلى تسوية بضمانات دولية صارمة.
هذان السيناريوهان تناولهما -فى غمار التعليق على الحرب- اثنان من أشهر المعلقين فى الصحافة الأمريكية، أولهما: تشارلز كروثمر، المعروف بمواقفه المحافظة وتعصبه الشديد لإسرائيل، وثانيهما: توماس فريدمان، الكاتب بـ«نيويورك تايمز»، وأبرز الصحفيين الأمريكيين.
تشارلز كروثمر -من ناحية- كتب مقالا فى صحيفة هيوستن كرونيكل (10 يناير) بعنوان «تدمير حكم حماس هو النتيجة الأفضل لحرب غزة»، قال فيه إن السيناريو اللبنانى سوف يفشل فى تحقيق مصالح إسرائيل، لأنه سوف يؤدى إلى نفس النتائج التى تمت فى لبنان، أى أن توجد قوة دولية تتجنب أى استعمال فعال للقوة، وحظر للسلاح يتم فى ظله -عمليا- تهريب السلاح مرة أخرى، إلى أن تتم إعادة تسليح «الإرهابيين» بالكامل ويصبحوا قادرين على شن هجماتهم مرة أخرى.
ولذلك، فإنه دعا -بكل قوة- إسرائيل إلى أن تتبع السيناريو الأول أى تفكيك حماس، وإهانتها، واستئصالها! وقال: لقد ضاعت تلك الفرصة من أولمرت فى لبنان، وعليه أن يقتنصها الآن. وخاطب كروثمر الإسرائيليين قائلا: «إن الفرصة سانحة الآن لإسقاط حماس، فقط إذا كانت إسرائيل مستعدة -ومسموحا لها- بذلك، أى أن تنجز مهمتها الحقيقية».
على العكس من ذلك تماما، كانت رؤية توماس فريدمان! ففى مقاله فى نيويورك تايمز فى 14 يناير الماضى، بعنوان «أهداف إسرائيل فى غزة» تساءل: ماذا تستهدف إسرائيل من حرب غزة؟ هل هو تأديب حماس أم استئصال حماس؟
ورد على السؤال بأنه يفضل «تأديب حماس»! لماذا؟ لأن استئصال حماس سوف يؤدى - كما يقول- إلى ضحايا وخسائر مرعبة ربما تقود إلى وضع أشبه بالفوضى فى الصومال. وعلى النقيض مما ذكره كروثمر، قال فريدمان إن السيناريو اللبنانى قد نجح فى كبح جماح حزب الله، لأن اللبنانيين الآن -وفق تعبيره- «سوف يقولون لحزب الله ماذا تظن؟ انظر ما أحدثته من دمار لبلادنا؟ لماذا ومن أجل من؟!!» وبالمثل، فإن مواطنى غزة، بعد أن تهدأ الأوضاع، سوف يتصدون لحماس ويمنعون هم إطلاق الصواريخ، حتى لا تتكرر الأهوال التى عانوا منها!!
* العار!
ولكن ماذا فعلت إسرائيل فعليا؟ الواقع أن إسرائيل تصرفت وفق السيناريوهين معا، فتعقبت حماس وكأنها تستهدف تدميرها بالكامل: قتل كوادرها، وتحطيم منشآتها، وهى أيضا استهدفت -وفق السيناريو اللبنانى!- المدنيين الفلسطينيين عن عمد وقصد مبيت، على نحو إجرامى ودموى غير مسبوق. وبشكل أكثر تفصيلا، فقد اتسم السلوك الإسرائيلى فى الأيام الثلاثة والعشرين للحرب بثلاث سمات:
الأولى: هى الغرور والعجرفة والزهو بآلات القتل المتطورة التى تحت أيديهم، والتى صورت لهم أن بإمكانهم أن ينجحوا -فى مواجهة الحرب الشعبية فى غزة- فيما فشلت فيه قبلهم كل القوى الاستعمارية والعنصرية.
السمة الثانية: هى النزعة العنصرية الكامنة فى السلوك إزاء الفلسطينيين. إن الإسرائيليين، وعلى رأسهم قادتهم، يرفضون بشدة هذه الأوصاف، لأنهم درجوا على أن يبيعوا للعالم فكرة أن اليهود كانوا هم ضحايا العنصرية، وأنهم لن يكونوا كذلك.
ولكن ماذا يعنى الاستهتار المشين بأرواح المدنيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين الذين استهدفتهم نيران الأسلحة الفتاكة بدم بارد؟ ماذا يعنى تصور أن مقتل إسرائيلى يساوى مقتل مئات الفلسطينيين، وأن احتجاز أسير إسرائيلى يبرر اجتياح قرى وأحياء فلسطينية؟ وماذا يعنى استخدام أسلحة محرمة دوليا تحرق وتشوه البشر والثمر؟
غير أن هناك سمة ثالثة لا يمكن إغفالها، هى الجبن وتجنب المواجهة المباشرة مع المقاتلين الفلسطينيين، وهى السمة التى تجعل استخدام الطائرات المحلقة من أعلى هو الوسيلة المثلى لضرب دراجة نارية على الأرض، والتخندق فى دبابة لضرب بيت أعزل صغير. فإذا اضطر جندى المشاة للنزول، فهو محصن بالدروع ومدجج بالأسلحة على نحو يجعله أشبه بالروبوت وليس بإنسان سوى.
ولكن: هل حققت إسرائيل أهدافها؟ هل انتصرت؟ بالقطع لا. نعم هى قتلت وأصابت آلاف الفلسطينيين، ودمرت آلاف البيوت والمنشآت والمرافق العامة.
وإذا كانت قد نجحت -بذلك جزئيا- فى تحقيق أهدافها قصيرة الأمد، فعوقت إطلاق الصواريخ عليها، وسددت ضربة قوية إلى حماس، فإنها لم ولن تمنع تلك الصواريخ نهائيا، وحماس لا تزال قائمة!
ولكن الأهم من ذلك كله أن الإنجاز الذى تحقق تكتيكيا أصاب -فى مقتل- الهدف الإسرائيلى الاستراتيجى الأهم، وهو أن تتقبل شعوب المنطقة أن تعيش إسرائيل بينها فى سلام، وتلك هى النتيجة الوحيدة المؤكدة للحرب التى شنتها على غزة.