«كفاية»

أيمن الجندي الأحد 25-10-2015 21:16

ما لا يعرفه الناس أن الإنسان يموت حين يقرر أن يموت! وعم فهمى قرر- فى تلك اللحظة- أن يموت. لا يعنى ذلك -حاشا لله- أنه سينتحر! هو الرجل المؤمن الذى لم يفوّت صلاة.

كان الوقت قد جاوز الظهيرة. واشتدت حرارة الشمس على وجهه المُتعب الذى أنهكته السنين. نحيف، صلد، يرتدى بذلة صيفية قصيرة الأكمام كعادته، لكن شيئا فيه لم يكُن على ما يرام.

وفجأة، وبينما هو يسير فى الشارع، توقف عم فهمى وقرر أن يموت.

■ ■ ■

كان صوت المطرب الشعبى ينساب من مكان ما، ربما مذياع فى أحد محال العصير المنتشرة من حوله، ربما من داخله. بصوت مملوء بالشجن والأسى كان يقول:

«أنا لو شكيت للحديد ربع ما بى ليدوب/ أنا اللى قلبى كتاب الصبر فيه مكتوب/ ياما صاحبت ناس وشفت ناس وعرفت ناس وقلوب/ أزرع لهم حب غالى يقطفوه بدرى/ وزارع الود مهما ينجرح ما يتوب».

■ ■ ■

كان من الطبيعى حين يسمع الموال أن تمتلئ عيناه بالدموع! عم فهمى رجل صلد جعلته النشأة الريفية أصلب عودا. رحم الله أيام زمان حين كان يقف مع أبيه فى الشدائد. أبوه الذى لم يخلع الجلباب قط. ولم يظفر من بعده بلحظات من السعادة كتلك التى كان يستشعرها وهو يشرب الشاى مع أبيه فى الحقل على الراكية. وفى الخلفية أزيز النار وهو تسرى فى كيزان الذرة. ويرمق الحقل الغامض الذى ارتدى عباءته السوداء.

رجلا كان. ليس مثل ابنه (الخرع) الذى توسل إليه ألا يتركه فى كهولته ويذهب للغربة بأجر بخس. أو ابنته- سر أبيها التى كان يتفنن فى مفاجآتها بحلق أو فستان! واليوم صارت تفضل عليه زوجها. ولا تزوره إلا إذا ألحّ فى الرجاء.

«كفاية». همس عم فهمى لنفسه. شقيقه الذى رفض بيع نصيبه فى قراطين الأرض التى ورثاها عن أبيه! كى يستبقى ابنه بجواره حين يعطيه النقود. أبناء عمومته الذين لم يناصروا الحق وخذلوه، هو الذى لم يخذل أحدا منهم قط. زملاؤه فى العمل الذين لطالما آزرهم وكان جزاؤه منهم أنهم نسوه تماما بعد المعاش!

ما الذى تبقى له كى يعيش من أجله. «كفاية».

■ ■ ■

توقف عم فهمى تماما فى منتصف الرصيف. تجاوزه الناس كما اعتادوا أن يتجاوزوه. لم يفطن أحدهم إلى تمثال الشقاء العجوز الذى بدت عليه ندوب السنين.

كان قد أخذ القرار بالموت. لا يريد أن يستمر فى لعب دوره الحزين! لا يريد أن يتجرع الكأس المر حتى الثمالة!

■ ■ ■

التف حوله العابرون. رفض أن يتكلم. حملوه إلى البيت. أرقدوه على الفراش الأبيض. دخل فى سبات أبيض. وفجأة شعر بيقظة غير معتادة.

كان واثقا أنه لا أحد فى البيت. وبرغم ذلك، ووسط ضباب أبيض، شاهد ابنه يقترب بالسرعة البطيئة، ويؤكد له أنه سيبقى ما تبقى من العمر طوع يديه. وارتمت ابنته فى أحضانه باكية ومؤكدة أنه حبيبها الأول. ولوّح أخوه الذى ظهر فى فضاء الغرفة فجأة بوثيقة بيع القيراطين. واتسعت الغرفة بمعجزة لأبناء عمومته ورفاق العمل، كلهم جاءوا كى يصلوا الود القديم.

ابتسم عم فهمى فى رضا. لكنه رغم كل شىء لم يفكر فى التراجع. «كفاية» يعنى «كفاية».

وتكاثف الضباب حتى أصبح كالقماش أبيض. أغمض عينيه منهكا وكان آخر ما شاهده أيديهم التى تلوّح له بالسرعة البطيئة.

elguindy62@hotmail.com