.. أن نكون معاً

سيلڤيا النقادى الجمعة 23-10-2015 20:06

فى عالم ليس غريباً عن مشاعر الوحدة وآلامها.. فى عالم يموت فيه آلاف المئات بسبب أمراض تنتج عن هذا الإحساس القاتل.. فى عالم يزداد فيه عدد الوحيدين كل يوم نتيجة للتشرد والصراعات والحروب وفقدان الأحباء.. تجلس تكنولوجيا يطلقون عليها الإنترنت مقدمة الوعود والآمال لإنهاء هذه العزلة الموحشة بإدراك واعٍ وعبقرى لمطالب واحتياجات وسيكولوجية هؤلاء الذين يعيشون بهذه الآلام القاسية... فالإنسان الوحيد عادةً ما يكون فرداً حساساً يبحث عن رغبة وقبول الآخر له.. فى نفس الوقت يُكون حائطاً من الحذر خوفاً من التعرض وهو ما يطلق عليه علماء النفس «اليقظة الشديدة» فهو فى ترقب وخوف دائم من رفض المجتمع له وما ينتج عن ذلك من جرح لمشاعره وكبريائه، لتصبح النتيجة حلقة مفرغة من الانسحاب نتيجة لهذا الشك وهذه الحساسية المفرطة ومن ثم تزداد حدة العزلة.

من هذا المنطلق تبدأ العلاقة بين «الوحيدين» وبين شبكة الإنترنت فالاختفاء خلف شاشة الكمبيوتر يسمح للشخص الوحيد بحرية التحكم من الإفصاح عن هويته، لذا فهو يبحث عن الصحبة دون التعرض لمخاطر الرفض وجهاً لوجه! فالشاشة تقوم بعمل غشاء يسمح بالخفاء أو التحول إلى صورة أفضل.. بمعنى آخر تقوم الشاشة «بفلترة» صورتك لإخفاء العيوب غير الجاذبة بالوجه مثلاً، وهو ما يؤدى إلى المزيد من الإعجاب والقبول من المتلقى ويسمح أيضاً بالمزيد من الأصدقاء والمتابعين.. إلا أن الأمر أصبح لا يتوقف عند هذا الحد أو يعالج الوحدة كما كان معتقداً فتبادل «اللايكات» بالإضافة إلى هذا الاتصال الإلكترونى لا يحقق هذا الاحتياج لأهمية معرفة المتحدث بكامل صورتة وأوضاعه الحقيقية.. حزين.. سعيد.. غريب الأطوار.. مرح.. مشع... صاح... إلخ.. وهذا ما أدركه المحللون المتخصصون فى التفاعل التكنولوجى الإنسانى والذين يرون أن الإنترنت- فى جانبه الإيجابى- قد يخلق ويشجع ويساعد على تكوين ما يطلقون عليه المُخترع الذاتى.. حيث يمكن أن نتخيل الآخرين كما نرغب بل نوظفهم لأغراضنا كما نحلو.. وهو نوع من الإغواء الخطير الذى يقوم به العقل، بالإضافة إلى سرعته الفائقة فى التخفيف من حدة الوحدة الناتجة عن الهجرة أو فقدان الأصدقاء أو انعدام الثقة.. إلا أن كل ذلك أصبح الآن لا يعوض المخاطر والجوانب السلبية التى يسببها الإنترنت لهؤلاء الذين يلجأون إليه كملاذ للتخفيف عن وحدتهم، فهذا الأمان وهذه الرغبة فى الخصوصية ما هما إلا أوهام كارثية، وهذه الشاشة - المفترض الاعتماد عليها- أصبحت غير قادرة على التفرقة بين مجالات الحقيقة والخيال، ذلك بالإضافة إلى خطورة المواقف العدائية التى يسببها الأفراد الذين يتخفون خلف هوية مزيفة، فهم قادرون على التحول إلى شخصيات مسعورة فى أى وقت مسببين حالة من الابتزاز أو الفضائح العلنية لهؤلاء الذين لجأوا لمعرفتهم أثناء شدتهم أو وحدتهم.. كذلك سمحت هذه التكنولوجيا إلى قتل الخصوصية فكل شىء أصبح مراقبا عبر الأقمار الصناعية وتفاصيل الأفراد أصبحت لها سجلات يصعب طمسها أو مسحها، حتى وإن تمت إزالتها من الموقع إلا أن أصولها تبقى محفوظة حتى فى وجود قانون الاتحاد الأوروبى- حق النسيان - والذى يسمح للأفراد بتقديم طلب لشركات الإنترنت بمسح أى معلومات أو بيانات لا يرغب الفرد فى بقائها على المواقع..

إن هذه الأجواء من المراقبة المستمرة والعقاب قتلت الألفة والحميمية التى كان يبحث عنها هؤلاء الوحيدون على هذا الكوكب الموحش.. هذه الأجواء زرعت الخوف والقلق وأصبحت هذه الأداة مصدراً للخجل بدلاً من أن تكون علاجاً أو مصدراً للنجاة..

هذه الثقافة الرقمية.. هذه التكنولوجيا... هذه الوحدة الحضرية والتى جسدها الفنان الأمريكى البارع إدوارد هوبر- نسور الليل- عام 1942 أى منذ سبعين عاماً ما هى إلا رؤى مستقبلية لمشاعر الانفصال والجفاء.. ما هى إلا طريق مفتوح لمزيد من الوحدة.. مزيد من العزلة... مزيد من التخفى.. مزيد من طمس الهوية فى عالم قاسٍ يعيشه بشر حزانى!.

selnakkady@gmail.com