التحرش والتسلط.. بين الفلك والسياسة

عمرو الزنط الجمعة 23-10-2015 20:07

هز المجتمع العلمى لاحقا خبر استقالة أستاذ الفلك المهم جيف مارسى، شبه مجبر ووسط «فضيحة» معتبرة، من منصبه الجامعى.. استقال «مارسى» من كرسى الأستاذية الذى شغله بجامعة أمريكية مرموقة (جامعة كاليفورنيا فى بركلى)، والذى حصل عليه بعد أن اشتهر منذ نهاية التسعينيات باكتشاف كواكب (منها ما يشبه الأرض) تدور حول نجوم (منها ما يشبه الشمس) خارج نطاق المجموعة الشمسية. هذا موضوع مهم علميا، لأنه مرتبط بالبحث عن حياة فى الكون- فتواجد تلك الحياة خارج المجموعة الشمسية مقترن بوجود كواكب أخرى مثل الأرض تدور حول نجوم مثل الشمس.. وبالفعل كان «مارسى» يدير مشروعا بحثيا ممولا من أحد المليارديرات الروس، بميزانية تقدر بمائة مليون دولار، وهدفه البحث عن حياة خارج المجموعة الشمسية.

لكن سبب سقوط العالِم الشهير كان يتعلق بطبيعة الحياة على الأرض، خاصة العلاقة بين الهيبة المكتسَبة علميا (أو بسبيل آخر) واستخدام القيمة المعرفية (الحقيقية أو المزورة) فى سبيل التسلط على الآخر.. وأيضا بالتداعيات الأخلاقية المنبثقة عن إحساس العالم (أو غيره) بأنه مُحَصَّن من القواعد والقوانين التى يخضع لها باقى البشر، نتيجة شعوره بأنه فوق المحاسبة، ربما لأنه «يعلم» أنه «مُلهَم»، أو ربما لأنه (مثل بعض السياسيين) يشعر بأن الجميع «هيستحمله» نتيجة احتياجهم إليه.

كان «مارسى» قد تحرش بالطالبات فى الجامعة، والمعاونات له فى مشاريعه البحثية، لمدة خمس عشرة سنة أو أكثر، لكن الموضوع لم يظهر على الملأ إلا لاحقا، ذلك لأن إدارة الجامعة حاولت طوال هذه المدة التكتيم و«التكميخ» على الموضوع.. وحتى عندما وصلت لنتيجة تحقيق تدين العالِم الشهير كان رد فعلها مقصورا على إنذار مكتوب وُجِّه له، رغم التجاوزات المتكررة التى صارت معروفة بين العاملين فى مجاله البحثى بين زملائه وطلابه، وحتى معظم مَن حضر مؤتمرا علميا يُدعَى فيه «مارسى». أما استقالته فقد جاءت فقط بعد الضغط الذى تعرض له، فى أعقاب نشر أربع من ضحايا مارسى، المتضررات من أفعاله التحرشية، نتيجة التحقيق على الإنترنت، ثم قيام أغلبية أعضاء هيئة التدريس بقسم الفلك بجامعة بركلى بالتوقيع على خطاب يطالب «مارسى» بالرحيل.

تهاونت إدارة الجامعة مع العالِم الشهير، لأنه يجلب الكثير من الأموال المرتبطة بالمِنَح البحثية التى يحصل عليها دوريا، وأيضا لأنه يجلب السمعة العلمية للجامعة، ما يجذب الطلاب المتميزين.. بل كان متوقعا حصوله على جائزة نوبل، لذلك رأى البعض أنه من الصعب تعويضه. كان العالِم الشهير يعلم ذلك، فأحس بأنه من «مراكز القوة» وفوق التقاليد واللوائح والقوانين، بل القيم الأخلاقية التى يتبعها مَن هو أقل منه شأنا فى عالم العلم.

ظاهرة الفرد الـ«سوبرمان»- الذى يعتقد أنه فوق معايير البشر، ويشجعه فى ذلك مَن حوله، ممن يعتقدون أنهم محتاجون لأفكاره وقيادته المُلهَمة- ليست مقصورة على مجال العلم بالطبع، بل ربما هى أكثر شيوعا فى الحيز السياسى، الذى نجد فيه أمثلة فجة: مثل النظام النازى الذى فهم كتابات الفيلسوف العظيم «نيتشه» بطريقته الخاصة، بمعنى أن القوة معناها أن يتبنى القائد المُلهَم آراء لا تخضع للمعايير المتبعة، وأنه بالتالى لا يجب أن يتبع القيم الأخلاقية المتفَق عليها. وفى السياسة أيضا صور أكثر تواضعا، فى ديكتاتور العالم الثالث الذى تتشبث به مؤسسات الدولة وجموع الشعب، لأنها تعتقد أنه المنقذ من الفوضى والخراب، ولا يمكن الاستغناء عنه، وتحرص أجهزة إعلامه على تأكيد أنه يعطى للبلاد سمعة وهيبة بين الأمم، ويجذب التمويل للبلاد.

فى كل ذلك شبه بين الديكتاتور و«العالِم المُلهَم» المتحرش وطبيعة «رخصة التحرش» التى يحصل عليها، فعبقرية القائد المُلهَم التى من المفترض أنها منقذة للبلاد تُعتبر أحيانا نابعة عن «علمه» بحقيقة وبواطن الأشياء وحكمته الخاصة، التى تعفيه فى نظر مؤيديه من المعايير الأخلاقية التى يتبعها باقى البشر.

وإذا كانت مثل هذه الظروف تتيح أحيانا للعالم المتميز أن يستخدم هيبته العلمية للتسلط على الأضعف- مَن لديه سلطة إدارية أو علمية عليه من طالبات ومعاونات فى حالة «مارسى» مثلا- فإن مثيلتها فى عالم السياسة تتيح للقائد المُلهَم، «العالِم» بأمور البلاد وكيفية ضبطها، استضعاف شعوب بأكملها والتحرش بها فعليا، وأحيانا ارتكاب جرائم دموية على نطاق واسع دون محاسبة، بل ربما بمباركة وتفهم عام.. للأسف فإن الدول المنكوبة هكذا ليس بها رأى عام قوى بشكل كاف، حتى يُجبر «البطل المُلهَم» على العدول عن نهجه.. ربما أحيانا لأن مثل هذه الدول ليست بها قاعدة كافية ينبع منها البديل (على عكس حالة جامعة مرموقة بها الكثير من الكفاءات).. ربما لأنها عندما جربت هذا السبيل أحست بالفشل الشامل الوشيك، وخطر الخراب.