البحث عن عالم لم يعد له وجود

مكاوي سعيد الخميس 22-10-2015 21:56

إلحاقاً بالمقال السابق عن كتاب «عرب البحر» سأورد بعض الانطباعات التى أتمنى أن تجذبكم إليه لعلكم تقتنونه، وذلك لصعوبة نقده وتحليله فى مقالين فقط، ويرجع ذلك إلى أنه من الحجم الكبير وصفحاته تقارب الخمسمائة صفحة، بالإضافة إلى أن مؤلفه الإسبانى «جوردى استيفا» سجل فيه كل شاردة وواردة، وكل ما هو طريف أو أسطورى- حتى لو خارج موضوع الكتاب- ووصف بدقة المدن والقلاع والسواحل وطرق المعيشة وأنواع الطعام، وحتى وسائل النقل البرية الممكنة من حمير ودواب وسيارات وقطارات ومراكب بدائية، عبر رحلته التى بدأها بالقاهرة مرورًا بالسودان وعبورًا للبحر الأحمر، ثم إلى شواطئ عدن باليمن، وأخيرًا إلى عُمان ومسقط وظفار وباقى أقاليم سلطنة عُمان، وصولاً إلى زنجبار. كذلك الجوانب التشويقية فى مهمته مثل رحلته عبر شمال وجنوب السودان، وبشكل خاص خلال وجوده بالخرطوم وجوبا، حيث بدأ فى ذلك الوقت يرصد ظواهر مهمة، أهمها بداية الأحداث التى كانت تمر بالصومال والتى انتهت بتفتيتها وجعلت منها دويلات تشبه كانتونات مستقلة! وأهمية الكتاب وموطن جماله أنه يصور رحلة «سندباد جديد» غير عربى، جاء من إسبانيا ليفرد أشرعته بحثا عن البحارة العرب الذين حلم بهم فى مرحلته الطفولية، وتمنى أن يقتفى أثرهم حين أبحروا فى المحيط الهندى مع الرياح الموسمية التى تحرك القوارب بحثا عن التوابل والحرير والعاج والأحجار الكريمة، وفى الحقيقة فكتاب «عرب البحر» هو كتاب رحلات بالمعنى الحقيقى للكلمة، يغوص فى واقع مختلف عن الذى اعتاد القارئ عليه، ويعود إلى صفحات مشرفة فى تاريخ العرب الذين كانوا سادة البحار، وقتما كانت أوروبا تعيش فى عصر الظلمات والتخلف، فالعرب كانوا يغامرون فى المحيط الهندى ويدورون حول رأس الرجاء الصالح قبل خمسمائة عام من ظهور البحارة البرتغاليين، الذين تمكنوا من اكتشاف ذلك عن طريق معاونة البحار العربى «أحمد بن ماجد»، وكان ذلك للأسف نتيجة صراع بين اثنين من الحكام العرب استعان أحدهما بالبرتغاليين وكافأهم بابن ماجد، ومن تلك اللحظة تغير تاريخ العالم! وقد جمع «جوردى» فى كتابه الأساطير فى البحار مع الرغبة فى استرداد رماد عالم لم يعد موجودًا. والمدهش فى رأيى أن شابا إسبانيا منذ طفولته كان يجلس إلى جوار البحر المتوسط يحلم بالشاطئ الآخر، حين تذهب السفن التى تدفعها العواصف متخيلاً مدنًا خفية على الشواطئ الصخرية ذات موانئ تدخل وتخرج منها السفن الشراعية العربية القادمة من عوالم سحرية، كما قرأ فى كتب السندباد التى كانت تحوى الكثير من التشابه مع حكاية البحارة العُمانيين، وكما شاهد من أفلام فى عروض أفلام الجوالة، ويقطع عهدًا على نفسه بأنه سوف يُبحر يوما فى إحدى تلك السفن الشراعية ويتوجه إلى بلاد السندباد، ويحقق حلمه وهو على أعتاب الخمسين ويسجل حكايته فى هذا الكتاب الجميل، فيضىء لنا- نحن العرب للأسف- جوانب مجهولة من تاريخنا، لم يفكر أو يبحث فيها- فى حدود علمى- باحثون أو متخصصون أو روائيون أو سينمائيون، بينما اهتم بها كاتب ومصور إسبانى اسمه «جوردى استيفا».. فتحية له.