ربما لو جلس أحد مسؤولي الدولة الكبار بضع ساعات أمام فضائية MBC2 التي تكرس ساعات بثها لإذاعة الأفلام الأجنبية لفهم سر الفجوة والجفوة بين الشباب والنظام الحاكم، ولتخيل على الفور أسباب انعدام الثقة المشتركة بين الطرفين.
ولكن لماذا MBC2 تجسد الفجوة والجفوة؟
(2)
يندهش القائمون على إعلام الدولة من عدم تجاوب الشباب معهم ومن استهزائهم برسائل النظام عن الوطنية ومفاهيمها وعن الانتخابات وضرورة المشاركة فيها.
لا أتكلم هنا عن الشتامين والمأجورين والمعاتيه من محتلي شاشات الفضائيات الذين يعتقدون أنهم يجاملون النظام الحاكم بالسير على هداه أو بمحاولة استشراف نواياه، والدفاع عنها من قبل أن تتأكد النوايا خططا فأفعالا.
بل عن الجناح الكلاسيكي المعبر فعلا عن الدولة والمشغول بصياغة معنى «الوطن» و«الخطر الذي يهدده» في الرسائل اليومية للإعلام المصري.
كيف تنتظر مني –كشاب- أن أتفاعل مع تصوراتك عن الوطنية وعن «قدرة مصر» وقد عفا على أحاديثك وفلسفتك الزمن؟
هل تعتقد أنني سأشاهد على MBC2 فيلما عن صراعات أجهزة المخابرات تتدخل فيه الاستعانة بالأقمار الصناعية وبعلم النفس وبأحدث التقنيات وأعقد طرق تحليل البيانات والحصول على المعلومات، ثم سأتفاعل بعدها بطبيعية مع رأفت الهجان وهو يكتب بالحبر السري؟
هل تظن أنني سأشاهد Mission impossible 5، حيث الحديث عن المؤامرات المخابراتية والعسكرية والدولية بكل هذا التعقيد الذهني وكل هذه البراعة الفائقة في حياكة سيناريو السياسة العالمية والحكي عن كواليسها، ثم سأقتنع بعدها بكلام لواء متقاعد يخرج على شاشة فضائية درجة ثانية مع مذيع درجة رابعة، ليقنعني أن لقبه كان «التمساح الفاتك» أو «الصقر المتحفز» أو «الأسد الرابض والتنين الخفي»، ليحدثني عن تفاصيل تافهة وسطحية وتفتقر للحد الأدنى من المنطق والمعرفة.. ثم سأقتنع أن الدولة على حق؟
لا أقول –وهذا توضيح للأذكياء- أن الدولة ينبغي أن تكون هوليوودية ومبهرة، ولكن أقول أنها على بعد أميال من العلم والمنطق والتاريخ، وعن اللغة التي يتحدثها عالم اليوم.
المسافة الفاصلة بين الدولة وشبابها هي ذات المسافة الفاصلة بين الجرامافون والآي بود.
الأمر ليس صراع أجيال، بمقدار هو متعلق بمسألة الثقة بين جيل (يمتلك المعرفة أو على الأقل يشاهدها في يد الأمم الأخرى) ثار على جيل ( لايؤمن بالمعرفة ويحب الركود ويعشق الأسونة).
تحت وهم يافطة «الاستقرار» مدد مبارك أمد حكمه، في حين كانت دول عربية بجوارنا تقطع مسافات هائلة نحو التطور والتقدم والرقي.
الفارق بين دولة الإمارات الشقيقة وبين مصر مبارك على سبيل المثال.. هو الفارق بين المعرفة والرغبة في التطور.. وبين الرغبة في إبقاء كل شيء على ما هو عليه، ثم التخويف من المجهول كله، خيره وشره!
الأزمة تتلخص بين جيلين أحدهما يؤمن بالتجريب والمعرفة والمغامرة، وبين جيل يرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان و«بلاش نمردة».
يندرج تحت هذا العنوان العريض تجليات مختلفة من انعدام الثقة الناجم عن اختلاف المفاهيم..حول –على سبيل المثال- مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق المواطن في صناعة حاضره ومستقبله.
القائمون على الدولة ينظرون لمسائل التعذيب في السجون وإلى الخروقات الحقوقية بوصفها ضرورات يفرضها الأمر الواقع، وبوصفها طبيعية في إطار نسبة وتناسب العمل الشرطي الذي يمتليء بالانتهاكات في كل بقاع الأرض.
في حين ننظر نحن بإعجاب وشغف إلى تجارب بعض الدول التي صاغت علاقة «آدمية» بين الشرطة ومواطنيها، وتتعامل مع التعذيب ومع انتهاك الكرامة بوصفه من الجرائم الكبرى، لا من الأمور «الوارد حدوثها».
المعرفة والخيال والرغبة في الجموح الذي يميز هذا الجيل هو الفارق الجوهري الذي تتشعب من بعده العناوين والمفاهيم.
لماذا على أن أقتنع بالمشاركة في انتخابات الفلول والنور والمنخنقة والموقوذة والمتردية من المرشحين؟
حين يشاهد الواحد فيلما سينمائيا أو وثائقيا أجنبيا، عن الحياة السياسية في الغرب، يحس بفداحة الفارق بين واقعنا والواقع الذي نرجوه، ومن هنا يتولد الإحباط وتنتفي الرغبة في المشاركة وتتزايد الرغبة في التذمر.
والدولة في إطلالتها وعقلها وكيانها تتحدث لغة غير التي نتحدثها، وتتوهم تصورات عن الحياة والحكم غير التي تدور في أذهاننا.
فإذا كان الاختلاف بين الطرفين في أصله، خلاف حول الفلسفة من جذرها، فكيف يمكن أن يقوم أي حوار من أي نوع بعد ذلك والمنطلقات نفسها مختلفة؟