رغم أن الإعلام الأمريكى غطى كعادته المناظرة الأولى لمرشحى الحزب الديمقراطى على طريقة «سباق الخيل»، أى من الذى يتقدم «السباق» ومن فى «آخر الصف»، بدلا من أن يغطيها باعتبارها مناسبة يعرف من خلالها الناخبون مواقف المرشحين من القضايا التى تهمهم، فإن تلك المناظرة جسدت الواقع بوضوح، حيث كشفت عن أن الساحة السياسية الأمريكية تعانى استقطابا حادا برز فى مواقف الديمقراطيين وتزداد حدته مع أزمة الحزب الجمهورى التى صارت أكثر تعقيدا لدرجة تصل لحد الفوضى الشاملة.
أما الاستقطاب السياسى، فقد كشفت عنه تلك المواقف الأكثر يسارية التى اتخذها أغلب المرشحين الديمقراطيين فى المناظرة، بمن فى ذلك هيلارى كلينتون بالمناسبة، من عدد كبير من القضايا. والمرشحون لمنصب الرئاسة الأمريكية، باستثناء الأيديولوجيين منهم، عادة ما يبنون مواقفهم على استطلاعات الرأى. ومن الواضح أن استطلاعات الرأى العام تقول بوضوح إن أغلبية الناخبين الديمقراطيين صاروا على يسار الحزب لا فى يمين الوسط ولا حتى فى الوسط السياسى للحزب الديمقراطى، الأمر الذى يعنى أن الفوز بترشيح الحزب يتطلب أن يقف المرشح من القضايا فى موقع أقرب ليسار الحزب لا فى الوسط ولا طبعا فى اليمين.
وبينما الديمقراطيون ينحون مزيدا نحو اليسار، فإن الحزب الجمهورى، الذى هو حزب الأغلبية فى مجلسى الكونجرس يعانى أزمة حادة داخله كشفت عن وجهها عبر تداعيات استقالة رئيس مجلس النواب، جون بينر، المفاجئة. فقد انسحب بشكل مفاجئ أيضا زعيم الأغلبية، كيفين ماكارثى، من المنافسة حول منصب رئيس المجلس. ثم تم تأجيل انتخاب ذلك الرئيس أصلا! فالفريق الذى ينتهج استراتيجية الصدام مع أوباما والديمقراطيين فى المجلس يريد إلزام أى مرشح لمنصب رئيس مجلس النواب بما يملونه عليه قبل الإعلان رسميا عن تأييدهم له. وقد وصل الانقسام داخل الحزب الجمهورى مداه وتجسد فى دعوة بعض النواب لبول رايان، زعيم أهم لجنة فى مجلس النواب للترشح للمنصب، وهو لايزال حتى كتابة السطور يرفض الإفصاح عما إذا كان ينوى فعلا الترشح. فرغم أنه كان أحد ثلاثة خططوا طويلا ونجحوا فى إيجاد ذلك الفريق الصدامى أصلا عبر دعم أفراده فى انتخابات دوائرهم، إلا أنه يعرف جيدا أنه لو استجاب لمطالبهم واتبع الصدام المطلق مع الرئيس والديمقراطيين، فسيكون رئيسا ضعيفا للمجلس مما يمثل مخاطرة بمستقبله السياسى.
غير أن الأهم والأخطر من ذلك هو أن الحزب الجمهورى قد ذهب فى مواقف مرشحيه للرئاسة بعيدا نحو اليمين على نحو تشير استطلاعات الرأى العام إلى أنه بذلك صار فعلا خارج إطار المقبول، لدرجة أن الكثير من الكتاب الكبار من اليمين المحافظ صاروا يقولون علنا إن الحزب الجمهورى صار خارج السياق. وكان آخر هؤلاء كاتب النيويورك تايمز المعروف ديفيد بروكس الذى كتب مقالا لم يقل فيه فقط إن الحزب الجمهورى فى الكونجرس صار «خارج السيطرة» وإنما أضاف أن الحزب «صار يفرز قيادات تتسم بعدم الكفاءة بشكل مذهل».
غير أن الأخطر من ذلك كله هو أن الحزب الجمهورى بالمواقف التى صار يتخذها صار يتصادم مع الواقع الديموجرافى للولايات المتحدة فى اللحظة الراهنة. فغير البيض أمريكا، سيصبحون الأغلبية خلال عقود قليلة، وهم اليوم يمثلون نسبة معتبرة من الناخبين، فى الوقت الذى لا يزال فيه الجمهوريون يتخذون مواقف تستعدى أغلب الأقليات العرقية والإثنية، ومعهما المرأة البيضاء وغير البيضاء على السواء.