تقوم ثورات ويتعاقب رؤساء ولا يزال «توقيفى» بالمطار سارياً

عمار علي حسن الخميس 15-10-2015 21:26

رغم أنها حكاية شخصية وصغيرة جداً لكنها تمثل بالنسبة لى أحد الأدلة وأنا أصنع مسار برهنة يقول «جدار السلطة الحالية هو الجدار القديم نفسه مع طلاء جديد فقط»، ولا يكفى أن يكون الرئيس لديه «حسن نية» فهو نفسه قال «الدول لا تدار بحسن النوايا فقط»، ومن كلامه نرد عليه، ونقول: هناك مراكز قوى توحشت فى البلد، لكن لهذه مقال آخر، أما ما أنا بصدده هنا فهو برهان على أن تصرفات أجهزة الأمن لم تتغير، وهنا لا يستطيع منصف إلا أن يقول للرئيس بيت الشعر الشهير: «إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة... وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم».

قد لا تكون حكاية شخصية فما يجرى لى يحدث لآخرين أعرف بعضهم، وكما نقابل أناسا بسطاء يحكون لنا تجاربهم الشخصية الحالية فى أقسام الشرطة والمصالح الحكومية والمستشفيات وغيرها ليقولوا لنا: «لم يتغير شىء»، أحكى تجربتى الشخصية هنا مثلهم، لكننى أقول: «ستتغير كل الأشياء رغم أنف كل من يعاند الناس وحكمة التاريخ ومنطق الثورات ومطالبها وقوة الدفع وتجلياتها».

أحكى هنا عن واقع أعيشه منذ سنوات طويلة، وللعبد لله قصص وحكايات تروى فى رحاب «ترقب الوصول والمغادرة». ذهب مبارك وجاء طنطاوى الذى لم يلبث أن راح وجاء مرسى محمولا على أكف مكتب إرشاده، ثم سقط، وجاء عدلى منصور مؤقتا، ومن بعده عبدالفتاح السيسى، وبقى الوضع بالنسبة لى فى المطار على حاله. ففى كل مرة أكون مغادرا مصر أو عائدا إليها، يأخذون جواز سفرى ويذهبون به إلى غرفة جانبية، لم أهتم أن أعرف ما يدور فيها، ثم يعودون به، بعد أن يكونوا قد اقتطعوا بعض وقتى. وحين يتيسر الأمر، فى بعض المرات، تقوم الموظفة الجالسة بجانب ضابط الجوازات برفع سماعة الهاتف وتقول لشخص لا أعرف من هو: «عمار على حسن» فيقول لها ما لا يصل إلى أذنى، لكننى أعرفه حين تمد لى جواز السفر، وتقول: مع السلامة.

فى مرة من تلك المرات أو بمعنى أحرى التوقيفات كنت ذاهبا إلى ألمانيا فما إن رآنى ضابط الجوازات حتى ابتسم وسألنى: متى سيتغير حال البلد؟ فبادلته الابتسام وقلت: حين لا ترفع الموظفة الجالسة بجانبك سماعة الهاتف وتهمس باسمى لرؤسائك ليقرروا ما إذا كان مواطن، لا جرم عليه مثلى، يسافر أم يعود إلى بيته؟ فضحكت هى وقالت: هذا لا يمكن أبدا.

وهكذا اعتدت أن أبتسم فى وجوه العِباد المأمورين، لدرجة أننى كنت ذاهبا إلى الأردن فى عام 2006 وكان الجوع يأكل جسدى، فقلت للموظفة قبل أن ترفع سماعة الهاتف: أعرف أنه مطلوب منك أن تغلسى عليَّ فاعتبرينى قد وقفت أمامك نصف ساعة وأننى كنت حزينا ومكسورا واتركينى لأتناول غذائى قبل إقلاع الطائرة، لأن المسافة إلى عمان لا تكفى سوى لساندويتشين صغيرين من اللانشون والجبنة الرومى تقدمهما المضيفة، وهذا لن يكفى شخصا لم يدخل جوفه طعام من عشرين ساعة تقريبا. يومها قهقهت وأعطتنى الجواز فمررت إلى غايتى.

المرة الوحيدة التى لم يوقفنى أحد كانت فى شهر فبراير 2011 بعد تنحى مبارك بأسبوع واحد، وكنت ذاهبا إلى الخرطوم لاستلام جائرة «الطيب صالح للإبداع الكتابى»، وعزوت ذلك إلى ارتباك الشرطة أيامها أو إلى بركات ما جرى فى التحرير، وهتفت من أعماقى: تحيا الثورة. لكن لم تلبث أن عادت الأمور إلى حالها القديم.

واعتدت هذا الموقف القاسى والساذج فى آن، وأصبحت أتعامل معه باستهانة، إلا مرتين، وجدت نفسى أتحدى وأصرخ ويهدر صوتى فى أرجاء المكان. الأولى كنت مسافرا إلى أبو ظبى عام 2009 برفقة الراحل الكبير أستاذى الدكتور محمد السيد سعيد، وكان المرض اللعين قد تمكن منه وأنهك جسده، وأخذ ضابط جوازه وجوازى وذهب، وتأخرت عودته، وكان موعد الطائرة قد اقترب، فاقتربت منه وقلت له: موعد الطائرة أزف. فتجهم فى وجهى ورد ببرود: نحن الذين نقرر متى تغادر الطائرة. ونظرت خلفى لأجد الأستاذ الكبير يجلس صابرا تحت ألمه، فانفجر الغيظ فى عروقى، وقلت للضابط وأنا أشير إلى الخلف: هذا الرجل من أعظم مفكرى هذا البلد وما يحدث معه ومعى لا يجوز. فرد دون أن يتخلى عن تجهمه: هذه أوامر. نظرت له فى تحد وقلت: إن كان بوسعك أن تبلغ من يعطون هذه الأوامر أن مثل هذه الأفعال الصغيرة لن تثنينا عن مقاومة الظلم والفساد، وما تفعلونه معنا يثبت أننا على حق حين نرفع فى «كفاية» شعار «لا للتمديد ولا للتوريث»، وما يحدث يقوينا وسننتصر.

أما المرة الثانية فقد كنت عائدا من الكويت فى ديسمبر 2010، وأخذوا جوازى وتأخروا طويلا، وكعادتى وقفت جانبا أقرأ فى كتاب، لكن حين جاء «صف الضابط» أكثر من مرة بجوازى حتى كدت أن أمسكه بيدى من أطراف أصابعه ثم ذهب به وأعطانى ظهره، وكأنه يلاوعنى، تملكنى غضب وصرخت فى وجه مقدم شرطة: حتى متى ستستمرون فى فتح صالة كبار الزوار من أجل اللصوص والخونة وتوقفون الشرفاء؟ ثم بدأت أهتف ضد مبارك وولده. وكان رحلات عديدة قد وصلت فأدار الناس من جنسيات مختلفة أعناقهم إلى التحدى الساكن فى ملامحى والثورة الخارجة من فمى، فجاءنى ضابط برتبة عميد بالجواز، وقال لى: خلاص يا أستاذ، تفضل، نحن ننفذ الأوامر.

ما لفت انتباهى فى حكاية التوقيف تلك الواقعة التى جرت مع واحد من جماعة الإخوان، قابلته فى مطار المنامة مصادفة أيام حكم مرسى، وقدم لى نفسه بأنه «رجل أعمال»، ولما صعدنا الطائرة استأذن جارى وجلس مكانه بجوارى، وتجاذبنا أطراف الحديث طيلة الرحلة، وسألنى إن كانت لدى سيارة تنتظرنى فى المطار فأومأت له بالإيجاب، فقال لى: إن لم يأت سائقى فأرجو أن تأخذنى فى طريقك، فقلت له على الرحب والسعة، ثم تذكرت شيئا فواصلت منبها: لكن أنا يتم توقيفى بالمطار، وأحيانا يستغرق هذا وقتا، ولذا عليك أن تنتظر انتهائى من هذا الإجراء السخيف. ابتسم وقال: وأنا يحدث معى هذا أيضا. وهبطنا سويا مطار القاهرة فى ساعة متأخرة من الليل، ففوجئت بأنه مر من أمام ضابط الجوازات فى ثوان، وبقيت أنا، ولما لحقت به سألته، فابتسم وقال: يبدو أنهم رفعوا اسمى، فقهقهت وقلت: طبيعى، فلا يعرف الإخوان سوى أنفسهم.

قبل سنين كانوا يبررون توقيفى بأنه لـ«تشابه أسماء» وكنت أقول: «ربما»، لكن الآن أصبحوا يعرفوننى، لكنهم يصرون على التبرير نفسه. وفى مرة ضحكت وقلت لهم: أى تشابه وجميعكم تعرفوننى، فقال أحدهم: بصراحة اسمك موجود فى «ترقب الوصول» من أيام حبيب العادلى، قهقهت وقلت له: لكن العادلى رحل من زمن، فابتسم وقال: رحل هو وبقى اسمك فى الدفاتر على حاله.

أظن، وبعض الظن ليس إثما، أن مثلى ليس عليه شىء مشين، صغر أم كبر، لكن السلطة لا يعنيها الشرف ولا تلتفت إلى الاستقامة ولا حتى إلى الوطنية والإخلاص، إنما يشغلها شىء واحد فقط وبه تعاديك، وذلك حين تصنفك بأنك لست معها، تناهضها أو تعارضها سيان، ولهذا السبب فقط يتم توقيفى فى المطار، لأنى ببساطة لا أرى فى كل السلطات التى تعاقبت على حكم مصر منذ أن وعيت على الحياة السياسية من يستحق أن أصبر عليه أو أصمت عنه أو أعلق أى أمل فيه، وإن تبدلت الوجوه والقصور.