أيام محطة الرمل

يسري الفخراني الثلاثاء 13-10-2015 21:42

كنا نأكل سندويتشات الفول والفلافل عند المحل الشهير محمد أحمد، فى شارع جانبى من ميدان محطة الرمل، كانت فسحة مبهجة، انتهت بإغلاق محل الفول بملامحه الأصلية التى استوعبت طاولاته البسيطة ذكريات أكثر مما تتخيل، كل الأشياء الجميلة تذهب، أينما تدخل محطة الرمل كانت لنا ذكرى مبهجة، البن البرازيلى بقهوته التى لا يخطئ رائحتها أحد، الجرسون خريستو فى مقهى ديليس حيث كان فنجان القهوة الصباحى للأستاذ نجيب محفوظ، مقهى تريانون القديم، حيث دارت أحداث من رواية ميرامار، فندق سيسيل منزل البكوات والباشوات والهوانم، سينما ستراند ومقهى على كيفك، الترام (أبودورين) وسنترال المحطة، بسترودس وأتينيوس، وأكشاك الجرائد والمجلات والكتب التى كنا نشترى منها بالقسط من الحاج الرملى أو الحاج سيد، هذه محطة الرمل التى عرفتها إسكندريتى، هى الآن ليست بالتفاصيل التى ألهمت أدباء لكى يصنعوا منها قصة أو رواية، ليست تلك التى كانت مصدر المتعة ومقصد البهجة.

لفت نظرى الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد الروائى الكبير، أن محافظ الإسكندرية أصدر أمرا بإزالة أكشاك الجرائد والمجلات والكتب، وإعادة بيع نفس المساحات التى تتوسط ميدان محطة الرمل بعد تحويلها لعلب بلاستيك إلى من يدفع أكثر، وغالبا سوف يدفع أكثر من لا يبيع كتابا، إنما من يبيع سجائر أو موبايلات، لم يكن الكتاب يوما سلعة مربحة، إنما كان دائما هو الربح ذاته، فهو كشك يضيف قيمة لأى مكان يوجد فيه، حتى لو كان ميدانا شهيرا مثل محطة الرمل.

لو كنت من محافظ الإسكندرية، كنت أصمم أكشاكا خشبية تحتل الميدان وأهديها لمن لايزال قادرا على أن يعرض فى الواجهة كتابا، كنت حولت ميدان محطة الرمل إلى ميدان حضارى، الكتب فى واجهات أنيقة، ورسامون يقدمون لوحاتهم فى معارض مفتوحة، وشباب يعرض منتجاتهم المصنوعة باليد والتى تعبر عن الإسكندرية، وكنت ألزمت كل المحلات هناك أن تجدد واجهتها بأسلوب واحد باستشارة أساتذة الفنون الجميلة، وأن تنير واجهات المحال فى المساء بطريقة تجعل الميدان يستعيد تألقه.

ملامح المبانى العريقة التى تطل على ميدان محطة الرمل ثروة مغرية بأن يتحول الميدان فى أقل من مائة يوم إلى نموذج تستحقه الإسكندرية، يدعى له كل المبدعين لكى يضعوا لمساتهم على كل حجر وكل زاوية وكل مبنى وكل رصيف.

على محافظ الإسكندرية أن يتحلى بالشجاعة الكافية لإنقاذ ميدان محطة الرمل، وأن يستعين بالمتخصصين وليس بالموظفين، بالفنانين الموهوبين وليس بالعقول التى ترهقها صور سيف وأدهم وانلى.

فى الإسكندرية آلاف المواهب والمبدعين فى كل المجالات وبكل الأعمار يمكنهم تحويل إسكندريتهم إلى قطعة من أوروبا بإمكانات قليلة، أو الإمكانات المتاحة، يمكنهم أن يجملوا القبح وينيروا المسارح المغلقة ويضعوا شرائط فى السينمات التى أطفئت أنوارها، يمكنهم عمل معرض فى كل شارع، ويكتبون رواية عن كل مقهى وكل حارة، وأن يصنعوا صحفهم ويديروا ماكينات الطباعة.

أتمنى أن يكون لدينا محافظ للإسكندرية عنده رؤية لكى يعرف أن سر هذه المدينة ليس فى بناء كوبرى.. إنما إشعال حماس آلاف من الشبان لكى يجعلوا الإسكندرية تنطق، الإسكندرية طوال تاريخها ـ لمن يقرأ ـ كانت منارة ومارية، ولم تكن أبدا مقبرة لكل شىء جميل وكل موهبة وكل فكرة وكل كتاب.