النخبة المزيفة (١)

عبد الناصر سلامة الإثنين 12-10-2015 21:05

فى كل المجتمعات تقريباً، هناك نخبة سياسية ونخبة ثقافية، الذاكرة المصرية الشفهية والمكتوبة تستحضر دائماً نخبة المئوية الأخيرة، سواء بحكم مناهج التاريخ فى المدارس، أو بحكم روايات ومعايشات الحضور أو الشيبة، سوف نجد من بينهم السياسيين، والمناضلين ممن تصدوا لمقاومة الاحتلال بأنواعه، وسوف نجد من بينهم الشعراء، والكتاب، وقادة الأحزاب، وحتى المطربين والممثلين، ممن كانوا يمثلون قيمة حقيقية فى المجتمع، سوف نجد أن النخبة أيضاً ضمت رغماً عنها رجال أعمال من رواد الصناعة الوطنية، وبذلك تغيرت مفاهيم النخبة من السياسة والثقافة إلى الصناعة والإنتاج، لا الذاكرة ولا المساحة سوف تسعفنا برصد كل هؤلاء، كلٌ فى مجاله.

المهم أن تعريف النخبة أصبح متعارفاً عليه دون نص رسمى فى الكتب، أو حتى فى اللوائح والمواثيق، وهم الأشخاص الفاعلون فى المجتمع بشكل عام، بمعنى أن عاملاً ما، فى مصنع ما، أو فى حقل زراعى، أو مهنة حرة، قد يكون أكثر فاعلية وفائدة للمجتمع من أى من هؤلاء الذين نطلق عليهم مجموعات النخبة، إلا أنه كان فاعلاً فى موقعه فقط، أو فى مكانه فقط، لكننا هنا حينما نتحدث عن النخبة نعنى الفاعلية بشكل عام فى تشكيل المجتمع، والتأثير فيه سياسيا وثقافيا واقتصاديا.

السؤال هو، أين موقع النخبة الآن فى مجتمعنا، وفى ظل هذه الظروف التى مر بها خلال السنوات الخمس الأخيرة تحديدا؟ أرى وبصفة شخصية أننا أصبحنا مجتمعاً بلا نخبة، وقد نعيش الآن حالة نخبة مزيفة تمت صناعتها بهذا القدر من السوء والتفاهة، فى إطار مخطط واضح وصريح يستهدف تسطيح المجتمع، بحيث لا يجد المواطن أمامه فى النهاية سوى التصفيق لكل من يرتدى الزى العسكرى، على اعتبار أنه لا يوجد بديل من أى نوع يمكن أن يقود البلاد إلى بر الأمان.

إلا أن الحقيقة المؤكدة فى الوقت نفسه، هى أن النخبة الحقيقية قد ساهمت فى ذلك بشكل كبير، من خلال ممارساتها التى حامت حولها المئات من علامات الاستفهام، خاصة بعد أن انخرطت فى بوتقة واحدة مع النخبة المزيفة، سواء من خلال البيانات الرسمية التى كانت تصدر مذيلة بتوقيع هؤلاء وأولئك فى وقت واحد، كما أسماء بعضهم مشتركة فى كشوف تمويل أجنبى، أو فى وثائق فساد واستغلال نفوذ، كما تورطت فى مزايدات سياسية، وانبطحت إلا ما ندر، أمام إغراءات متدنية بدأت من الشاى بالياسمين، ثم توجت بمناصب وهمية مؤقتة، حتى انتهت مهمتها، فتم القذف بها إلى قارعة الطريق، وصناديق القمامة.

اكتشفت النخبة الحقيقية أنه تم استخدامها لتثبيت أركان البدلة العسكرية فى الحياة المدنية لا أكثر ولا أقل، ثم استُعيض عنها بالنخبة المزيفة نتاج البانجو والترامادول، فثارت ثورتهم، وأصبحنا نرى معارضة صاخبة صباح مساء، شفهية ومكتوبة، إلا أن التسجيلات والسيديهات والفيديوهات التى تدينهم، كانت أسبق إلى الشارع من كل ذلك الذى يُكتب ويُقال، فكانت النتيجة الطبيعية هى أن المواطن لم يعد يثق فى هذه الحقيقة، ولا هو أساساً يحترم تلك المزيفة، وبذلك أصبحنا بحكم الواقع مجتمعاً بلا نخبة.

ربما كانت هناك حتى الآن بعض النُخَب من بقايا النصف الثانى من المئوية السالفة، خاصة ممن عملوا مع الرئيسين الراحل أنور السادات، والأسبق حسنى مبارك، إلا أنهم فى معظمهم اعتزلوا العمل العام، أو المشاركة فى الشأن العام، إما بحكم الحالة العمرية والصحية، أو قسراً وغضباً، بعد أن أصبحت الساحة متخمة بالمشوهين واللقطاء الذين أصبحوا نجوم فضائيات، بعضهم شارك فى كتابة دستور حُسن النية، والبعض الآخر فى مشروع قانون الصحافة والإعلام، والبعض الثالث مرشحون الآن على قوائم البرلمان، أملاً فى مزيد من السيادة الاجتماعية، وإمعاناً فى مزيد الهرتلة السياسية.

على أى حال، قد يرى النظام الحاكم أنه قد حقق نجاحاً باهراً فى هذا الشأن، لا يوجد بديل، هذا ما تم تسويقه، وهذا ما أرادوه وقد تحقق لهم ذلك إلى حد كبير، اعتماداً على أن غوغائية (التوك شو) قد قامت بدور كبير فى تنفيذ مخطط التسطيح العام، وها هى مستمرة فى أداء ذلك الدور حتى الآن، إلا أن ما يجب وضعه فى الاعتبار هو أن ذلك التسطيح سوف يضر بالمجتمع وبالنظام فى آن واحد أيما ضرر، لأن نتيجة الجهل كانت دائماً وأبداً وبالاً على الجميع، وفى مقدمتهم من أسسوا له وصنعوه، وأستطيع الزعم أنه لولا دور بقايا النخبة فى البداية، لما كان هذا النظام الحاكم، إلا أنها كانت للأسف دنية ومتدنية، سال لعابها أمام الشاى بالياسمين، وها هى تتجرعه وبالًا.