من الثورة إلى الحرب؟!

عبد المنعم سعيد الإثنين 12-10-2015 21:18

بدأت قصتنا مع «الثورة» و«الحرب» وكأنها خلاصة عقدين من السنوات دارت بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، انغرست فى لحمنا، ودخلت فى خلايا دمنا، مرة بالآمال التى وصلت إلى أن نخدش «بالظفر وجه السماء، ونضرب بالكف وجه الأسد» كما قالها نجيب سرور، ومرة بخيبة الأمل والإحباط. كان ما جرى أن وعيا كبيرا حدث بالوطن، ومن بعده ذلك الدور الكبير الذى بات على مصر أن تلعبه من المحيط «الهادر» إلى الخليج «الثائر». أصبح الوعى غامرا بما يحدث بالدنيا من حولنا، وتعلمنا كثيرا فى منظمة الشباب فائدة العمل المنظم، وكان إيماننا بالرئيس عبدالناصر هائلا، حتى جاء صباح الخامس من يونيو ١٩٦٧، ونحن فى امتحان مادة «المجتمع العربى» بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وإذا بأصوات القنابل، والمدفعية المضادة للطائرات تنذرنا بأن الحرب بدأت. لم تفلح تحذيرات الدكتور عبدالملك عودة- رحمه الله- فى دفعنا لاستكمال الامتحان، فاندفعنا إلى خارج اللجنة، انتظارا للنصر المرتقب، فسوف تصل قواتنا المظفرة إلى تل أبيب قبل أن يأتى المساء!

كانت الصدمة مروعة، فلم تصل قواتنا إلى تل أبيب، ولكن وصل العدو إلى بعد ١٠٠ كيلومتر من القاهرة. لم تكن الكارثة فى «الهزيمة» ولكن لأنها صارت «نكسة»، ولأن هناك من قال لنا إنه طالما ظل النظام «الثورى» قائما، فإن النصر كان إلى جانبنا. وللحق فإننا لم نفهم على وجه الدقة ما حدث، ذهب جمع الشباب من مدينة «الباجور» منوفية إلى القاهرة مشياً على الأقدام يطالب عبدالناصر بالبقاء، وراح يبنى الآمال على المقاومة فى «رأس العش»، وحينما قيل لنا إن المهم هو إنقاذ محصول القطن ذهبنا إلى الحقول لإنقاذه، وعندما ذاع أنه من الممكن أن نتدرب فى كتائب المقاومة الشعبية، ذهبت إلى «الدخيلة» فى الساحل الشمالى للتدريب استعداداً ليوم موعود. ولكن الحقائق بدأت تنكشف، الواحدة بعد الأخرى، لم يعد لمنظمة الشباب معنى فى بلد محتل فخرجت منها، ولا كان التنظيم الطليعى الذى رفضت دخوله يمكنه الادعاء بأنه يمكنه قيادة البلاد نحو التحرير. وفى ٢١ فبراير ١٩٦٨ صدرت ما عرفت بأحكام الطيران، فكانت أول ثورات العمال والطلبة فى العهد الثورى الناصرى التى طالبت ليس فقط بمعاقبة المسؤولين عن النكسة، بل أيضا أن تكون مصر بلدا مختلفا عما كانت عليه. قال عبدالناصر أيامها إنه لا يمكن أن يحدث التناقض بين الثورة وشباب الثورة، ولكن التناقض حدث لأن الثورة لم تعد كذلك، وشبابها بدأ يكون وجهات نظر أخرى انقسمت بشدة بين اليمين واليسار. ظهر الإخوان على استحياء، ولكنهم ظهروا بفكرة أن الهزيمة كانت لأن الإيمان لم يكن كافياً، أما اليسار الذى انقسم ما بين ماركسيين، وتروتسكيين، واشتراكيين من أنواع شتى، وفوضويين وكفى، عللوا المسألة بأن الهزيمة جرت لأننا لم نكن اشتراكيين حقا، ولا ثوريين حقيقة. اجتمع الجميع على الحرب فحسب، واختلفوا على كل شىء آخر، وكان ذلك ما جرى فى ثورة أخرى جرت بعد ٤٣ عاما تقريبا.

كانت ثورة الشباب المصرى عجيبة بالنسبة للعالم الذى شاهدها الوحيدة التى تطالب بالحرب فى زمن حرب فيتنام التى ساد فيها شعار «لا للحرب ونعم للحب»، وكانت عجيبة بالنسبة للمصريين الذين وجدوا أن البلاد لم تعد من ناحية تحتاج ثورة إضافية على الثورة المغدورة السابقة، ومن ناحية أخرى أنه لا توجد مهمة أعلى من التخلص من آثار العدوان. لم تكن ثورة «الطلاب» كما وصفت حدثا واحدا، بل سلسلة من الأحداث المتفرقة، كانت نتيجتها دائما إغلاق الجامعات، فيكون زمناً لأغانى أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وقصائد زين العابدين فؤاد، وكتابة الرسائل التى تتم فيها حوارات شتى بين اليمين واليسار، وداخل اليسار واليمين، ولم يكن ما يدفعها إلى الهدوء إلا حرب الاستنزاف واشتعال الجبهة بين يوم وآخر. وحتى بعد أن تخرجنا، وجرى تجنيدنا فى القوات المسلحة، لم يكن هناك مكان آخر غير الجامعة، وفى حالتنا كانت جامعة القاهرة. بالنسبة لى أصبحت جندياً فى الكتيبة ٦٥٤ مقذوفات موجهة مضادة للدبابات، ثم صرت عريفاً، فرقيباً، بعد أن حصلت على معارف عسكرية متنوعة، ولكن صلتى لم تنقطع قط عن جماعة الثوار الطلبة الذين حملوا شعلة الثورة بأعداد أكبر، وقدرات فكرية وتنظيمية أفضل، وغضب أعلى. كان عبدالناصر قد ذهب إلى رحمة الله، وجاء السادات ليكون عليه مواجهة الإسرائيليين ومن وراءهم من ناحية، ويواجهنا نحن جماعة الثورة من ناحية أخرى. وحينما لم يتحقق «عام الحسم» الذى وعد به، وذكر فى خطاب أن الحرب بين الهند وباكستان شكلت «ضباباً» منع القرار من التطبيق، فكانت الثورة الثانية فى يناير ١٩٧٢. بالصدفة البحتة كان لدى عشرة أيام إجازة، وذهبت إلى الجامعة، فكان أحمد عبدالله رحمه الله- المفكر ورئيس مركز الجيل فيما بعد- قد أعد مجلة حائط سماها «الشبورة»، وكان محمد السيد سعيد رحمه الله- زميل مركز الأهرام وصديق العمر- مع جماعة أخرى قد أعدوا الكثير من الشعارات والمجلات، وجرى ذلك ليس فقط فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكن فى جامعة القاهرة كلها، وفى كل جامعات مصر تقريبا. كانت الاعتصامات أيامها لا تجرى فى الميادين، وإنما تحت قبة الجامعة، ورغم أن الاعتصام جرى فضه، وتم اعتقال وسجن اللجنة الوطنية العليا للطلاب، إلا أن مظاهرات المطالبة بالحرب لم تتوقف.

فى واحدة من هذه المظاهرات تم القبض على، ومن سجن مديرية أمن الجيزة تم نقلى إلى سجن المخابرات الحربية، وبعد ثلاثة أسابيع أخبرونى بأننى سوف أعود إلى وحدتى العسكرية مرة أخرى، وأن قائد الكتيبة المقدم جمال حفيظ سوف يقوم بتسلمى. وفى الطريق من السجن إلى الوحدة العسكرية لم يتحدث معى القائد بكلمة واحدة، لم يكن على استعداد فى ذلك الوقت للقبول بواحد من مشاغبى الطلبة. كانت الوحدة قد أعيد تشكيلها، وباتت تحت قيادة جديدة، ولكن الأخطر من ذلك كان لدينا الكثير من الاستعدادات والمناورات والتدريبات التى سوف نقوم بها. كان العد التنازلى لحرب أكتوبر قد بدأ، وكان ما سوف نقوم به هو «بروفات» الحرب ذاتها. بشكل ما بات واضحاً لى أن ما جرى فى جامعة القاهرة أمر، وما بات حادثاً من استعداد عسكرى أخذنا إلى الجبهة فى «سرابيوم» على مقربة من الإسماعيلية أمر آخر. كان قد مضى علىّ عامان فى القوات المسلحة، تعلمت فيهما مهارات عدة، ولكن أهم ما تعلمته كان عن مصر ذاتها، حيث لا توجد مؤسسة أخرى مثل القوات المسلحة فى مصر تضم تحت أجنحتها كل طوائف الشعب المصرى. كانت هذه تجربة حية فى الغوص داخل مصر، ربما إذا كان فى العمر بقية أكتب عنها يوماً ما.

يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٧٣ سألنى المقدم جمال حفيظ عما إذا كنت راغباً فى الحصول على إجازة قدرها ٣٦ ساعة، وساعتها لم أفهم السؤال، فقد كنا فى قلب مناورات شاملة نمارس فيها عبور ترعة الإسماعيلية بدلاً من قناة السويس. فيما بعد عرفت أن هذه الإجازات كانت جزءاً من خطة الخداع الاستراتيجى، وبعد أن شكرته ممتناً، ذهبت فى اليوم التالى إلى القاهرة، وهناك كما هى العادة انطلقت إلى جامعة القاهرة لكى أجد الأصدقاء من جماعة الثورة. كان جميعهم مجندين، وحصلوا على نفس الإجازة التى حصلت عليها، وبعضهم كان يحصل على فرقة تدريبية من نوع أو آخر. وكما هى العادة فى كل الأحوال جرى الحديث عن الحرب، وكان تقريرى أن أمراً جاداً يحدث، وأن الحرب لائحة فى الأفق، ومن ثم فإنه على الجميع العودة فورا إلى وحداتهم. كان موقف اثنين من الحاضرين أن «النظام» لا يستطيع القتال ولا يعرفه، وإذا عرفه فإنه سوف يشن حرباً لخدمة «البورجوازية». انفجر محمد السيد سعيد بأنها حرب «وطنية» لا شك فيها، ومن ثم تواعدنا على اللقاء فى اليوم التالى فى القطار الذاهب إلى الإسماعيلية. هناك التقينا وكان معنا الزميل والصديق عبدالمنعم المشاط، وذهب كل منا إلى موعده مع الحرب التى تغيرت معها أمور كثيرة أهمها أن بناء مصر صار هو المهمة الكبرى. ولاتزال المهمة قائمة.