هل ينجح هذا الوزير السياسى؟

جمال أبو الحسن الأحد 11-10-2015 21:17

وها قد عشنا فى مصر حتى رأينا العجبَ العُجاب! الدولة تختار وزيراً يصلح بالفعل لأداء مهمته!

فى استثناء نادر، اختارت الدولة وزيراً من خارج دائرة الموظفين الواقفين فى الطابور فى انتظار أن يصيبَهم الدور. انتقت مسؤولاً لديه «فكرة ما». لديه شىء يعطيه للمنصب. اختيار حلمى النمنم وزيراً للثقافة استثنائى وخارجٌ عن المألوف. الأيام وحدها ستكشف إن كان الاختيارُ مجرد خطأ غير مقصود (وجلّ من لا يسهو!) أم أنه اختيارٌ وراءه رؤيةٌ ما. ندعو الله أن تكون الثانية لا الأولى.

أهم ما يُميز النمنم أنه وزير سياسى، وهى عملة نادرة فى العمل الحكومى المصرى. الحُكم المصرى لا يأخذ بفكرة الوزير السياسى. النظام ليس مُصمماً من الأصل ليسيَّره وزراء سياسيون. من المهم أن نقف عند هذه النقطة ببعض التأمل. هناك منهجان كبيران لإدارة المجتمعات. إما أن يتولى القيادة سياسيون يعبرون عن أحزاب وأفكار ومبادئ سياسية. أو أن يتولى الإدارة خبراء وموظفون محترفون فى مجالاتهم. المشكلة أن النهج القائم على انتقاء القيادات من بين السياسيين يقتضى ابتداء وجود حياة سياسية. هكذا يختار الناس القيادات على أساس أفكارهم وانتماءاتهم لتيارات وتعبيرهم عن مصالح واتجاهات. فى غياب حياة سياسية نشطة يُصبح البديل الوحيد هو اختيار القادة من الخُبراء أو الموظفين. هنا، يصير وكيل وزارة الزراعة أو عميد إحدى كليات الزراعة هو الأوفر حظاً لتولى منصب وزير الزراعة، وليس- مثلاً- زعيم الحزب الذى يتبنى برنامجاً لتحرير سياسة بيع المحاصيل الزراعية.

نظامنا يتأسس إذاً على الخُبراء والموظفين. ليس فى الحكومةِ المصرية سياسى- بالمعنى المذكور آنفاً- سوى رئيس الجمهورية. لهذا النظام مزايا قليلة، أهمها استقرار السياسات. وكيل الوزارة هو غالباً الشخص الأكثر معرفة بسياسة سلفه وهو الأقدر على الاستمرار فيها. المشكلة أن قدرة مثل هذا القائد/ الموظف على الإتيان بجديد تظل محدودة. الأهم، أن قدرته على تصور واقع مختلف تُعد شبه معدومة. حُكم الموظفين يُعزز الاستقرار ولكنه- فى الأغلب- يقف حائطاً منيعاً أمام التغيير والتجديد.

من هنا «استثنائية» اختيار النمنم. الرجلُ ليس موظفاً بالمعنى المتعارف عليه. صحيحٌ أنه تولى مناصب تنفيذية فى وزارة الثقافة مؤخراً، وصحيح كذلك أنه عمل طول حياته فى مؤسسة حكومية (دار الهلال)، إلا أنه لا يُحسبُ موظفاً. هو فى المقام الأول صحفى ومثقف وصاحب رأى. أعرف النمنم ويعرفه القُراء كاتباً وبحاثة هو الألمع فى مجال الصحافة الثقافية خلال العقدين الماضيين. هو ليس بأى حال غريباً على الوزارة التى تولى قيادتها. بل هو- بحكم عمله السابق كمحرر ثقافى- يعرف الكثير عنها. على أنه كان يرى الوزارة بعدسة النقد والمتابعة، وليس من باب الانتظار فى الصف لحين الوصول للمنصب الأعلى. لا أعتقد أن الرجل كان يسعى فى أى وقت لكى يُصبح مسؤولاً حكومياً. أظن أن طموحاته انصبت دوماً على الإنجاز الثقافى.

بهذا المعنى، نحن أمام نموذج أقرب ما يكون للوزير السياسى. النمنم لم يضيع وقتاً لكى يثبت هذه الفكرة فى الأذهان. وضع نفسه من اليوم الأول فى خانة صاحب الموقف. تحدث عن خطورة التيار الدينى وعن الحاجة لعلمانية الدولة بقدر لافت من الشجاعة والوضوح. هو- كما يبدو- يعتبر أن دوره أبعد من مجرد مدير كبير لوزارة الثقافة. هو يتصور نفسه مُنافحاً عن فكرة. مدافعاً عن رأى. معبراً عن سياسة.

كاتبُ هذه السطور له رأى- شرح منطلقاته من قبل- يتفهم أهمية انخراط التيار السلفى فى العمل السياسى فى هذه اللحظة بالذات. على أن إشراك السلفيين فى العملية السياسية ليس مُرادفاً لعدم منازلتهم فى كل ميدان وتحدى أفكارهم من على كل منبر. لابد أن يُدافع العلمانيون عن مواقفهم ورؤاهم. أن ينطلق صوتهم واضحاً. جوهر الخطيئة التى سقط فيها مثقفون مصريون كُثر لم تتمثل فى التسامح مع مشاركة الإخوان فى السياسة. جوهر الخطيئة كان الالتحاق بهم والانسحاق أمامهم والترويج لهم- تلبيساً وتدليساً على الناس- والنكوص عن خوض معركة حتمية ومصيرية معهم.

حلمى النمنم يعكس هذا الصوت العلمانى الصريح، الواثق، قاطع النبرة. أمرٌ مُطَمئِنٌ أن نراه على قمة وزارة يتصل عملها بتشكيل الوعى. أهمسُ فى أذنه بأن المعركة مع السلفيين ليست حرباً لمُطاردة الساحرات. مقارعة الخطاب السلفى أمرٌ لا غنى عنه. على أن تكوين خطاب بديل يظل أكثر أهمية وأبقى أثراً. شيوع الفكر السلفى هو النتيجة الطبيعية لغياب خطاب تنويرى يلمس وجدان الناس.

ولأننا أمام وزير سياسى، وهكذا نريده أن يظل، فلا بأس أن نطالبه بمهام سياسية: أتمنى أن يلعب الرجلُ دوراً فى التواصل مع جيل جديد من المثقفين بدأ نشاطه مع بداية الألفية وتفاعل مع انتفاضة يناير. إنه جيل يضم موهوبين حقيقيين (وكدابى زفة أيضاً!)، ولكنه مازال يتخبط. مازال تأثيره محصوراً فى دوائر محدودة لا يخرج منها. الانعزال يولد الراديكالية والغربة عن التيار العام لحركة المجتمع. علاقة هذا الجيل بالدولة ليست فى أفضل أحوالها. يتعين الاعترافُ بأن هوةً كُبرى تفصل بين الدولة وبينه. مد جسور حقيقية- لا شكلانية- بين الدولة ومثقفى هذا الجيل هو فرض عين. أعلق هذه المهمة الصعبة فى رقبة الوزير الجديد. إنها مهمة هو لها أهل. فقد عرفتُ النمنم- كما عرفه الكثيرون من أبناء جيلى من المشتغلين بالصحافة- رجلاً جاداً، يُقدِّر العمل الجاد ويشجع عليه. هو يستطيع فرز الموهوبين حقاً من بين الكثيرين من «كدابى الزفة».

علمتنا التجربة فى مصر أن «الأمانى والأحلام تضليل»، غير أننى لا أخفى تفاؤلى. أشد على يد الوزير وأتمنى له السداد.

gamalx@yahoo.com